﴿فالسابقات سبقاً﴾ أي : الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وقال مجاهد رضي الله عنه : هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله تعالى وكرامته، وقد عاينت السرور. وقال قتادة رضي الله عنه : هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير. وقال عطاء : هي الخيل التي تسبق في الجهاد، وقيل : هي ما يسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار. قال الجرجاني : ذكر السابقات بالفاء لأنها مسببة عن الذي قبلها، أي : واللاتي يسبحن فيسبقن.
قال الواحدي : وهذا غير مطرد في قوله تعالى :﴿فالمدبرات أمراً﴾ أي : الملائكة تدبر أمر الدنيا، أي : تنزل بتدبيره. قال الرازي : ويمكن الجواب بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المدبرات هي الملائكة وكلوا بأمور عرّفهم الله تعالى العمل بها.
٥٣٨
قال عبد الرحمن بن سابط : يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم السلام، فأما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقرب منه وبينه وبين العرش خمسمائة عام. وقيل : هي الكواكب السبع، حكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وفي تدبيرها بالأمور وجهان : أحدهما تدبير طلوعها وأفولها، والثاني في تدبير ما قضى الله تعالى فيها من تقليب الأحوال أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأمور على قيام الساعة والبعث، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وأما العباد فلا يصح لهم أن يقسموا بغير الله تعالى وصفاته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣٧
وقوله تعالى :﴿يوم ترجف﴾ أي : تضطرب اضطراباً كثيراً مزعجاً ﴿الراجفة﴾ أي : الصيحة منصوب بالجواب، أي : لتبعثنّ يا كفار مكة ﴿يوم ترجف الراجفة﴾ وهي النفخة الأولى بها يرجف كل شيء، أي : يتزلزل ويتحرّك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلائق فوصفت بما يحدث منها. ﴿تتبعها الرادفة﴾ أي : الصيحة التابعة لها وهي النفخة الثانية، ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة، والجملة حال من الراجفة واليوم واسع للنفختين وغيرهما، فصح ظرفيته للبعث الواقع عقيب الثانية. وقال قتادة رضي الله عنه : هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى، وقال عطاء : الراجفة القيامة والرادفة البعث. روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال :"كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ربع الليل قام وقال : يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه".
﴿قلوب يومئذ﴾ أي : إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى ﴿واجفة﴾ أي : خائفة قلقة مضطربة من الوجيف وهو صفة القلوب، وقال مجاهد رضي الله عنه : وجلة. وقال السدّي : زائلة عن أماكنها، نظيره ﴿إذ القلوب لدى الحناجر﴾ (غافر : ١٨)
﴿أبصارها﴾ أي : أبصار أصحابها، فهو من الاستخدام ﴿خاشعة﴾ أي : ذليلة من الخوف، ولذا أضافها إلى القلوب، كقوله تعالى :﴿خاشعين من الذل﴾ (الشورى : ٤٥)
﴿يقولون﴾ أي : أرباب القلوب والأبصار في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث ﴿أئنا لمردودون﴾ أي : بعد الموت ﴿في الحافرة﴾ أي : في الحياة التي كنا فيها قبل الموت، وهي حالتنا الأولى، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا، تقول العرب : رجع فلان في حافرته، أي : رجع من حيث جاء، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأوّل الشيء. وقال بعضهم : الحافرة وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم، سميت حافرة بمعنى المحفورة. كقوله تعالى :﴿عيشة راضية﴾ (الحاقة : ٢١)
أي : مرضية، وقيل : سميت حافرة لأنها مستقرّ الحوافر، أي : إنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً نمشي عليها، وقال ابن زيد : الحافرة النار.
﴿أئذا كنا﴾ أي : كوناً صار جبلة لنا. ﴿عظاماً نخرة﴾ أي : بالية متفتتة نحيى بعد ذلك،
٥٣٩
وقرأ : أئنا وإذا نافع وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني، والباقون بالاستفهام فيهما، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون بالتحقيق، وأدخل بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ألفاً والباقون بغير إدخال.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣٧
وقرأ نخرة حمزة وشعبة والكسائي بالألف بعد النون والباقون بغير ألف، وهما لغتان، مثل : الطمع والطامع، والحذر والحاذر، معناهما البالية، وفرق قوم بينهما فقالوا : النخرة البالية، والنخرة المجوّفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي : تصوّت.