﴿فأنت له﴾ أي : دون الأعمى ﴿تصدّى﴾ أي : تتعرّض له بالإقبال عليه والمصادّة المعارضة وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الصاد بإدغام التاء الثانية في الأصل فيها والباقون بالتخفيف.
﴿وما﴾ أي : فعلت ذلك والحال أنه ما ﴿عليك﴾ أي : وليس عليك بأس ﴿ألا يزكى﴾ أي : في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم إن عليك إلا البلاغ.
﴿وأما من جاءك﴾ حال كونه ﴿يسعى﴾ أي : يسرع في طلب الخير وهو ابن أمّ مكتوم ﴿وهو﴾ أي : والحال أنه ﴿يخشى﴾ أي : الله أو الكفار في أذاهم على الإتيان إليك. وقيل : جاء وليس معه قائد فهو يخشى الكبوة، وقرأ قالون وأبو عمرو والسدّي بسكون الهاء والباقون بضمها.
﴿فأنت عنه تلهى﴾ فيه حذف التاء الآخرة في الأصل، أي : تتشاغل، وقرأ ﴿وتولى﴾، ﴿الأعمى﴾، ﴿يزكى﴾، ﴿من استغنى﴾، ﴿تصدّى﴾، ﴿يزكى﴾، ﴿يسعى﴾، ﴿يخشى﴾، ﴿تلهى﴾ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح.
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع من العاتب عليه وعن معاودة مثله. فإن قيل : ما فعله ابن أمّ مكتوم كان يستحق عليه التأديب والزجر، فكيف عاتب الله تعالى رسوله ﷺ على تأديبه، لأنه وإن كان أعمى فقد سمع مخاطبته ﷺ لأولئك الكفار، وكان بسماعه يعرف شدّة اهتمام النبيّ ﷺ بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه ﷺ لغرض نفسه قبل تمام كلام النبيّ ﷺ معصية عظيمة، وأيضاً فإنّ الأهمّ يقدّم على المهمّ، وكان قد أسلم وتعلم ما يحتاج من أمر الدين، وأما أولئك الكفار فلم
٥٤٩
يكونوا أسلموا، وكان إسلامهم سبباً لإسلام غيرهم، فكان كلام ابن أمّ مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك يحرم أيضاً. فإنّ الله تعالى ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرّد ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصارف للكفار عن الإيمان أولى أن يكون ذنباً، وأيضاً فمع هذا الاعتناء كيف لقب بالأعمى، وأيضاً فالنبيّ ﷺ له أن يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتعبيس من ذلك القبيل ؟
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤٨
أجيب : بأنّ ما فعله ابن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالماً بأنّ النبيّ ﷺ مشغولاً بغيره وأنه يرجو إسلامهم، ولكنه لم يعلم بذلك. وأيضاً الله سبحانه وتعالى إنما عاتبه على ذلك حتى لا تنكسر قلوب الضعفاء، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنيّ الكافر.
وقال ابن زيد : إنما عبس النبيّ ﷺ لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه فدفعه ابن أمّ مكتوم وأبى إلا أن يتكلم مع النبيّ ﷺ فكان في هذا نوع جفاء منه، ومع هذا نزل في حقه ذلك، وأما ذكره بلفظ الأعمى فليس للتحقير بل كان بسبب عماه يستحق أن يزيده تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً، ولقد تأدب الناس بأدب الله تعالى في هذا تأدباً حسناً، فقد روي عن سفيان الثوري رضي الله عنه : أنّ الفقراء كانوا بمجلسه أمراء، وأما كونه ﷺ كان مأذوناً له في تأديب أصحابه فلأنّ تقديمهم ربما يوهم ترجيح تقديم الأغنياء على الفقراء فلهذا السبب عوتب.
قال الحسن رضي الله عنه : لما تلا جبريل عليه السلام على النبيّ ﷺ هذه الآيات عاد وجهه كأنما نسف فيه الرماد ينتظر ما يحكم الله تعالى عليه فلما قال :﴿كلا﴾ سرّي عنه أي : لا تفعل مثل ذلك، وقد بينا نحن أنّ ذلك محمول على ترك الأولى. ثم قال الله تعالى :﴿إنها﴾ أي : هذه السورة. وقال مقاتل رضي الله عنه : آيات القرآن. وقيل : القرآن، وأنثه لتأنيث خبره وهو قوله تعالى :﴿تذكرة﴾ أي : عظة للخلق يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
﴿فمن شاء ذكره﴾ أي : كان حافظاً له غير ناس، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
ثم إنّ الله تعالى أخبر عن جلالة ذلك عنده فقال سبحانه ﴿في صحف﴾ أي : منتسخة من اللوح المحفوظ، وقيل : هي كتب الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى :﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾ (الأعلى، الآيتان : ١٨ ـ ١٩)
. ﴿مكرمة﴾ أي : عند الله تعالى.
﴿مرفوعة﴾ أي : في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار ﴿مطهرة﴾ أي : منزهة عن أيدي الشياطين لا يمسها إلا أيدي ملائكة كرام مطهرين.
كما قال تعالى :﴿بأيدي سفرة﴾ أي : كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر يقال : سفرت، أي : كتبت، ومنه قيل للكتاب : سفر وجمعه أسفار. وقيل : هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم بالصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤٨