ثم أثنى تعالى عليهم بقوله سبحانه :﴿كرام﴾ أي : على الله تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في كرام قال : مكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إلا إذا خلا بزوجته أو برز لغائط وقيل : يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وقوله :﴿بررة﴾ جمع بارّ كساحر وسحرة وفاجر وفجرة، والبارّ هو الصادق المطيع. ومنه برّ فلان في يمينه أي : صدق، وفلان يبر خالقه
٥٥٠
أي : يطيعه. فمعنى بررة مطيعين صادقين لله تعالى في أعمالهم.
ولما ذكر تعالى ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فقال سبحانه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤٨
﴿قتل الإنسان﴾ أي : لعن الكافر، وقوله تعالى :﴿ما أكفره﴾ استفهام توبيخ، أي : ما أشدّ تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك مما حمله على الكفر.
وقوله تعالى :﴿من أي شيء خلقه﴾ استفهام تقرير.
ثم بينه بقوله تعالى :﴿من نطفة﴾ أي : ماء يسير جدّاً لا من غيره. ﴿خلقه﴾ أي : أوجده مقدّراً على ما هو عليه من التخطيط ﴿فقدّره﴾ أي : علقة ثم مضغة إلى آخر خلقه فكأنه قيل : وأي سبب في هذا الترفع مع أنّ أوّله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حامل عذرة، فإنّ خلقة الإنسان تصلح أن يستدل بها على وجود الصانع ؛ لأنه يستدل بها على أحوال البعث والحشر. قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب والظاهر العموم.
فإن قيل : الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك، والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء، فالعالم به كيف يليق به ذلك ؟
أجيب : بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح. كقولهم إذا تعجبوا من شيء : قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل : الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى :﴿من نطفة خلقه﴾ ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى :﴿فقدّره﴾ أي : أطواراً وقيل : سوّاه كقوله تعالى :﴿ثم سوّاك رجلاً﴾ (الكهف : ٣٧)
أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى :﴿وخلق كل شيء فقدّره تقديراً﴾ (الفرقان : ٢)
ثم ذكر المرتبة الوسطى بقوله تعالى :﴿ثم﴾ بعد انتهاء المدّة ﴿السبيل﴾ أي : طريق خروجه من بطن أمّه ﴿يسره﴾ أي : سهل له أمره في خروجه بأن فتح له الرحم وألهمه الخروج منه، ولا شك أنّ خروجه من أضيق المسالك من أعجب العجائب يقال : إنه كان رأسه في بطن أمّه من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام المراد، ومنه قوله تعالى :﴿وهديناه النجدين﴾ (البلد : ١٠)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥١
أي : التمييز بين الخير والشرّ.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد : سبيل الإسلام. قال أبو بكر بن طاهر : يسر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه لقوله ﷺ "كل ميسر لما خلق له". ثم ذكر المرتبة الأخيرة بقوله تعالى :﴿ثم أماته﴾ وأشار إلى إيجاب المبادرة بالتجهيز بالفاء المعقبة في قوله تعالى :﴿فأقبره﴾ أي : جعله في قبر يستره إكراماً له، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير وغيرها.
٥٥١
﴿ثم إذا شاء أنشره﴾ أي : أحياه بعد موته للبعث، ومفعول شاء محذوف أي : شاء إنشاره وأنشره جواب إذا، وقرأ قالون وأبو عمرو البزي بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وسهل الثانية ورش وقنبل ولهما أيضاً إبدالها ألفاً والباقون بتحقيقهما.
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع للإنسان عما هو عليه، وقيل : معناها حقاً. قال الأوّل الزمخشري وتبعه البيضاوي، وقال الثاني الجلال المحلي. ﴿لما يقض﴾ أي : يفعل ﴿ما أمره﴾ به ربه من الإيمان وترك التكبر. وقيل : لم يوف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم عليه السلام. وقيل : المعنى : إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التأمّل في دلائل الله تعالى والتدبر في عجائب خلقه.
ولما كانت عادة الله تعالى جارية في القرآن أنه كلما ذكر دلائل الإنسان ذكر عقبها دلائل الآفاق بدأ من ذلك بما يحتاج إليه الإنسان بقوله تعالى :﴿فلينظر الإنسان﴾ أي : يوقع النظر التامّ بكل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته ﴿إلى طعامه﴾ أي : الذي هو قوام حياته كيف هيأ له أسباب المعاش ليستعدّ بها للمعاد.
قال الحسن ومجاهد : فلينظر إلى طعامه إلى مدخله ومخرجه. وروي عن الضحاك أنه قال : قال لي رسول الله ﷺ "يا ضحاك، ما طعامك ؟
" قلت : يا رسول الله، اللحم واللبن، قال :"فشرابك ماذا ؟
" قلت : الماء قد علمته، قال :"فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا".
وروي عن ابن عمر أنّ الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه فيأتيه الملك فيقول انظر إلى ما تحليت به إلام صار.


الصفحة التالية
Icon