﴿عطلت﴾ أي : تركت مسيبة مهملة بلا راع، أو عطلها أهلها عن الحلب والصر لاشتغالهم بأنفسهم، أو السحاب عطلت عن المطر والعرب تشبه السحاب بالحامل، والأوّل على وجه المثل لأنّ في القيامة لا تكون ناقة عشراء، والمعنى : أنّ يوم القيامة بحالة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
﴿وإذا الوحوش﴾ أي : دواب الأرض التي لا تأنس بأحد التي تظن أنها لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها ﴿حشرت﴾ أي : جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض ثم تصير تراباً. قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل : إذا قضي بينها ردّت تراباً فلا يبقى منه إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه. وعن ابن عباس حشرها موتها، يقال إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم : حشرتهم السنة.
وقرأ ﴿وإذا البحار سجرت﴾ أي : على كثرتها ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها. قال ابن عباس : أوقدت فصارت ناراً تضطرم. وقال مجاهد : فجر بعضها في بعض العذب والملح، فصارت البحار كلها بحراً واحداً. وقال القشيري : يرفع الله تعالى الحاجز الذي ذكره، فإذا رفع ذلك البزرخ تفجرت مياه البحار فعمت الأرض كلها وصارت بحراً واحداً. وروى
٥٥٧
أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم ؛ إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض فتحرّكت واضطربت وفزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماج بعضهم في بعض فذلك قوله تعالى :﴿وإذا الوحوش حشرت﴾ أي : اختلطت ﴿وإذا البحار سجرت﴾ قال الجنّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج. قال : فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. وعن ابن عباس قال : هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة، وهي ما ذكر من بعد.
﴿وإذا النفوس﴾ أي : من كل ذي نفس من الناس وغيرهم ﴿زوّجت﴾ أي : قرنت بأجسادها، وروي أنّ عمر سئل عن هذه الآية، فقال : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقال الحسن وقتادة : ألحق كل امرىء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى. وقال عطاء : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الشياطين بالكافرين.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥٦
وإذا الموؤدة﴾ أي : الجارية المدفونة حية. كان الرجل في الجاهلية إذ ولد له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمّها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيذهب بها إلى البئر، فيقول لها : انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض.
وقال ابن عباس : كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً حبسته. وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال تعالى :﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق﴾ (الأنعام : ١٥١)
وكانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهنّ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد وفيه افتخر الفرزدق في قوله :
*ومنا الذي منع الوائدات ** وأحيا الوئيد فلم توءد*
﴿سئلت بأيّ﴾ أي : بسبب أيّ ﴿ذنب﴾ يا أيها الجاهلون ﴿قتلت﴾ أي : استحقت به عندكم القتل، وهي لم تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حدّ التكليف.
فإن قيل : ما معنى سؤالها عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها ؟
أجيب : بأن سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى عليه السلام :﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق﴾ (المائدة : ١١٦)
. وروي أنّ قيس بن عاصم "جاء إلى النبيّ ﷺ فقال : يا رسول الله، إني وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية. فقال ﷺ أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. قال : يا رسول الله، إني صاحب إبل ؟
٥٥٨
فقال له ﷺ أهد عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت". وروي أنه ﷺ قال :"إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقاً ولدها بيدها ملطخاً بدمائه فيقول : يا رب هذه أمّي وهذه قتلتني".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥٦