﴿وإذا الصحف نشرت﴾ أي : فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير وشر تطوى بالموت، وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول :﴿ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ (الكهف : ٤٩)
. وروي عن عمر أنه كان إذا قرأها قال : إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وروي أنه ﷺ قال :"يحشر الناس حفاة عراة" فقالت أمّ سلمة : كيف بالنساء ؟
فقال :"شغل الناس يا أمّ سلمة". قالت : وما يشغلهم، قال :"نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل". وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بتشديدها على تكرير النشر للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع وقيل لتكرير ذلك من الإنسان.
﴿وإذا السماء﴾ أي : هذا الجنس كله أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي. ﴿كشطت﴾ أي : نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة والغطاء عن الشيء. قال القرطبي : يقال : كشطت البعير كشطاً نزعت جلده ولا يقال سلخت لأنّ العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، والمعنى : أزيلت عما فوقها. وقال القرطبي : طويت.
﴿وإذا الجحيم﴾ أي : النار الشديدة التأجج ﴿سعرت﴾ أي : أججت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها يقال سعرت الناء وأسعرتها. روي أنه ﷺ قال :"أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة" واحتج بهذه الآية من قال : النار مخلوقة الآن لأنه يدل على أنّ سعيرها معلق بيوم القيامة. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين والباقون بتخفيفها.
﴿وإذا الجنة﴾ أي : البستان ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة ﴿أزلفت﴾ أي : قرّبت لأهلها ليدخلوها. قال الحسن : إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال عبد الله بن زيد : زينت والزلفى في كلام العرب القربة.
وقوله تعالى :﴿علمت نفس﴾ جواب إذا أوّل السورة وما عطف عليها، أي : علمت كل نفس من النفوس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة، فالتنكير فيه مثله في تمرة خير من جرادة، ودلالة هذا السياق للهول على ذلك يوجب اليقين فيه ﴿ما﴾ أي : كل شيء ﴿أحضرت﴾ من خير وشر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥٩
روي عن ابن عباس وعمر أنهما قرأا فلما بلغا ﴿علمت نفس ما أحضرت﴾ قالا : لهذا
٥٥٩
أجريت القصة. قال الرازي : ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود : أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ ﴿علمت نفس ما أحضرت﴾ قال : واقطع ظهراه.
﴿فلا أقسم﴾ لا مزيدة، أي : أقسم ﴿بالخنس الجوار الكنس﴾ هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون، أي : ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها، أي : تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل : هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي : تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.
﴿والليل﴾ أي : الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها ﴿إذا عسعس﴾ قال البغوي : قال الحسن : أقبل بظلامه. وقال آخرون : أدبر، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر، ولم يبق منه إلا القليل.
﴿والصبح إذا تنفس﴾ أي : امتدّ حتى يصير نهاراً بيناً، يقال للنهار إذا زاد تنفس، ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف، وفي كيفية المجاز قولان : الأوّل : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل : تنفس الصبح. الثاني : أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن، فعبر عنه بالتنفس.
وقوله تعالى :﴿إنه﴾ أي : القرآن ﴿لقول رسول كريم﴾ هو المقسم عليه، والمعنى : أنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى، أي : انتفت عنه وجوه المذامّ كلها، وثبت له وجوه المحامد كلها، وهو جبريل عليه السلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عز وجلّ.
﴿ذي قوّة﴾ أي : شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف.