﴿عند ذي العرش﴾ أي : الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى :﴿مكين﴾ أي : ذي مكانة متعلق به عند، أي : ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى :"أنا عند المنكسرة قلوبهم" وقيل : قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥٩
مطاع ثمّ﴾ أي : في السموات. قال الحسن : فرض الله تعالى على أهل السموات طاعة جبريل عليه السلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد ﷺ قال ابن عباس :"من طاعة جبريل عليه السلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ ﷺ قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن
٥٦٠
الجنان : افتح له ففتح فدخلها فرأى ما فيها". ﴿أمين﴾ أي : بليغ الأمانة على الوحي الذي يجيء به. وقيل : الرسول هو محمد ﷺ فالمعنى حينئذ : ذي قوة على تبليغ الوحي ﴿مطاع﴾ أي : يطيعه من أطاع الله تعالى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥٩
﴿وما صاحبكم﴾ أي : الذي طالت صحبته لكم، وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى إنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وهو محمد ﷺ وهذا عطف على أنه إلى آخر المقسم عليه.
وأغرق في النفي فقال تعالى :﴿بمجنون﴾ أي : كما زعمتم يتهم في قوله :﴿بل جاء بالحق وصدّق المرسلين﴾ (الصافات : ٣٧)
فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون، ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكمل.
تنبيه : استدلّ بذلك بعضهم على فضل جبريل عليه السلام على محمد ﷺ حيث عدّ فضائل جبريل عليه السلام واقتصر على نفي الجنون عن النبيّ ﷺ وهو كما قال البيضاوي : ضعيف ؛ إذ المقصود منه نفي قولهم إنما يعلمه بشر، وقولهم افترى على الله كذباً، وقولهم أم به جنة لا تعديد فضله والموازنة بينهما.
﴿ولقد رآه﴾ أي : رأى رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها، وله ستمائة جناح. ﴿بالأفق المبين﴾ أي : البين، وهو الأفق الأعلى الذي عند سدرة المنتهى حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون للشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة. وقال مجاهد وقتادة : بالأفق الأعلى من ناحية المشرق.
وعن ابن عباس "أنّ النبيّ ﷺ قال لجبريل عليه السلام :"إني أحب أن أراك على صورتك التي تكون فيها في السماء" قال : لن تقوى على ذلك، قال :"بلى". قال : فأين تشاء أن أتخيل لك، قال :"بالأبطح". قال : لا يسعني، قال :"فبمنى". قال : لا تسعني. قال :"فبعرفات". قال ذلك بالحري أن يسعني، فواعده فخرج النبيّ ﷺ للوقت، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبل عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيّ ﷺ خرّ مغشياً عليه، قال : فتحوّل جبريل عن صورته فضمه إلى صدره، وقال : يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة، وإنّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع ـ يعني : العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل : إنّ محمداً ﷺ رأى ربه عز وجل بالأفق المبين، وهو قول ابن مسعود وقد مرّ ذلك في سورة النجم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦١
وما﴾ أي : وسمعه ورآه والحال أنه ما ﴿هو﴾ أي : محمد ﷺ ﴿على الغيب﴾ أي : ما غاب من الوحي وخبر السماء، ورؤية جبريل وغير ذلك مما أخبر به. وقرأ ﴿بنين﴾ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة من الظنة، وهي التهمة، أي : فليس بمتهم، والباقون بالضاد موافقة للمرسوم من الضن وهو البخل، أي : فليس ببخيل بالوحي فيزوي بعضه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه
٥٦١
كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد، وكان ﷺ يقرأ بهما.
قال الزمخشري : وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بدّ منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقاً غير صواب، وبينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب.
فإن قلت : فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه، قلت : هو كوضع الذال مكان الجيم والثاء مكان السين لأنّ التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما اه. كلامه بحروفه.
﴿وما هو﴾ أي : القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات. وأغرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال تعالى :﴿بقول شيطان﴾ أي : مسترق للسمع فيوحيه إليه كما يوحيه إلى بعض الكهنة ﴿رجيم﴾ أي : مرجوم مطرود بعيد من الرحمة، وذلك أنّ قريشاً كانوا يقولون : إنّ هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه، يريدون بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ ﷺ في صورة جبريل يريد أن يفتنه، فنفى الله تعالى ذلك.
وقوله تعالى :﴿فأين﴾ منصوب بقوله تعالى :﴿تذهبون﴾ لأنه ظرف مبهم، وقال أبو البقاء : أي إلى أين فحذف الجار، أي : فأيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه، وفي هذا استضلال لهم فيما يسلكون من أمر النبيّ ﷺ والقرآن كقولك لتارك الجادّة أين تذهب.
﴿إن﴾ أي : ما ﴿هو﴾ أي : القرآن الذي آتاكم به الرسول ﴿إلا ذكر﴾ أي : عظة وشرف ﴿للعالمين﴾ من إنس وجنّ وملك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦١
وقوله تعالى :﴿لمن شاء منكم﴾ بدل من العالمين بإعادة الجار ﴿أن يستقيم﴾ باتباع الحق. قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، وهذا هو القدر وهو رأس القدرية فنزل ﴿وما تشاؤون﴾ الاستقامة على الحق ﴿إلا أن يشاء الله﴾ أي : إلا وقت أن يشاء الملك الأعظم الذي بيده كل شيء مشيئتكم الاستقامة عليه ﴿رب العالمين﴾ أي : مالك الخلق. وفي هذا إعلام أنّ أحداً لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شراً إلا بخذلانه. ونقل البغوي في أوّل السورة بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه ﷺ قال :"من أحب أن ينظر في يوم القيامة فليقرأ ﴿إذا الشمس كوّرت﴾".
وأمّا قول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه ﷺ قال :"من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حسن تنشر صحيفته". فحديث موضوع.
٥٦٢
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦١