وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى :﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده. وعن بعض المفسرين أنّ لفظ التطفيف يتناول التطفيف في الوزن والكيل. وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف، والمعاشرة والصحبة في هذه المادّة، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦٨
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع، أي : ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا، وههنا تم الكلام. وقال الحسن : كلا ابتداء متصل بما بعده على معنى حقاً، وجرى الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأوّل.
﴿إنّ كتاب الفجار﴾ أي : كتب أعمال الكفار وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف. واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى :﴿لفي سجين﴾ فقيل : هو كتاب جامع، وهو ديوان الشر دوّن الله تعالى فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس، وقيل : هو مكان تحت الأرض السابعة وهو محل إبليس وجنوده. وقال عبد الله بن عمر : سجين في الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار.
٥٧٠
وعن البراء قال : قال رسول الله ﷺ "سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش". وقال الكلبي : هو صخرة تحت الأرض السابعة خضراء خضرة السموات منها يجعل كتاب الفجار فيها. وقال وهب : هي آخر سلطان إبليس. وعن كعب الأحبار : أنّ روح الفاجر يعني : الكافر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، ثم هبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس وذلك استهانة بها، ويشهدها الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. وقال عكرمة : لفي سجين، أي : في خسار وضلال.
﴿وما أدراك﴾ أي : جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك.
﴿ما سجين﴾ وقال الزجاج : أي : ليس لك ذلك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
وقوله تعالى :﴿كتاب مرقوم﴾ ليس تفسيراً لسجين بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله تعالى :﴿إن كتاب الفجار﴾ أي : هو كتاب مرقوم، أي : مسطور بين الكتابة مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازون به، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقيل : الرقم الختم بلغة حمير، واقتصر على هذا الجلال المحلي. وقال قتادة : رقم عليه بشرّ كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر. والمعنى : أنّ ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمي سجيناً فعيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض كما مرّ.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٧٠
فإن قيل : سجين هل هو اسم أو صفة ؟
أجيب : بأنه اسم علم منقول من وصف كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف.
﴿ويل﴾ أي : أعظم الهلاك ﴿يومئذ﴾ أي : إذ تقوم الناس لما تقدّم ﴿للمكذبين﴾ أي : بذلك أو بالحق. وقوله تعالى :
﴿الذين يكذبون بيوم﴾ أي : بسبب الإخبار بيوم ﴿الدين﴾ أي : الجزاء الذي هو سر الوجود بدل أو بيان للمكذبين، ثم أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين بثلاث صفات ذكر أولها بقوله تعالى :
﴿وما﴾ أي : والحال أنه ما ﴿يكذب به﴾ أي : بذلك اليوم ﴿إلا كل معتد﴾ أي : متجاوز عن النظر غال في التقليد، حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه، فاستحال منه الإعادة. ثم ذكر الصفة الثانية بقوله تعالى :﴿أثيم﴾ أي : منهمك في الشهوات المحرجة بحيث اشتغل عما وراءها وحملته على الإنكار لما عداها. ثم ذكر الصفة الثالثة بقوله تعالى :
﴿إذا تتلى عليه آياتنا﴾ أي : القرآن ﴿قال أساطير الأوّلين﴾ أي : الحكايات سطرت قديماً جمع أسطور بالضم، وذلك لفرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لا تنفعه دلائل العقل، وهذا عام في كل موصوف بذلك، وقال الكلبي : هو الوليد بن المغيرة. وقيل : هو النضر بن الحارث. وقوله تعالى :
﴿كلا﴾ ردع وزجر، أي : ليس هو أساطير الأوّلين، وقال الحسن : معناها حقاً كما مرّ. ﴿بل ران﴾ أي : غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم السماء ﴿على قلوبهم﴾ أي : كل من قال هذا القول ﴿ما كانوا يكسبون﴾ أي : كما يركب الصدأ من إصرارهم على الكبائر وتسويف التوبة
٥٧١
حتى طبع على قلوبهم فلا تقبل الخير ولا تميل إليه. روى أبو هريرة أنّ رسول الله ﷺ قال :"إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه المبين". وقال أبو معاذ : الران أن يسودّ القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشدّ من الران، والأقفال أشدّ من الطبع، وهو أن يقفل على القلب، قال تعالى :﴿أم على قلوب أقفالها﴾ (محمد : ٢٤)


الصفحة التالية
Icon