﴿يا أيها الإنسان﴾ أي : الآنس بنفسه الناسي لأمر ربه ﴿إنك كادح﴾ فقيل : المراد جنس الإنسان كقولك : يا أيها الرجل، فكأنه خطاب خص به أحد من الناس. قال القفال : وهو أبلغ من العموم ؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العامّ. وقيل : المراد منه رجل بعينه، فقيل : هو محمد ﷺ والمعنى : إنك كادح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل. وقال ابن عباس : هو أبيّ بن خلف وكدحه هو جدّه واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء النبيّ ﷺ والإصرار على الكفر. والكدح : جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه.
ومعنى كادح ﴿إلى ربك﴾ أي : جاهد إلى لقائه وهو الموت، أي : هذا الكدح يستمرّ إلى هذا الزمن وقال القفال : تقديره إنك كادح في دنياك. ﴿كدحاً﴾ تصير إلى ربك. وقوله تعالى :﴿فملاقيه﴾ يجوز أن يكون عطفاً على كادح، والسبب فيه ظاهر، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : فأنت ملاقيه، وقيل : جواب إذا، والضمير في ملاقيه إمّا للرب أي : ملاقي حكمه لا مفر لك منه، وإمّا للكدح إلا أنّ الكدح عمل وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد جزاء كدحك من خير أو شرّ. وقال الرازي : المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويؤكد هذا قوله تعالى بعده :
﴿فأمّا من أوتي كتابه﴾ أي : كتاب عمله الذي كتبته الملائكة. ﴿بيمينه﴾ أي : من أمامه وهو المؤمن المطيع.
﴿فسوف يحاسب﴾ أي : يقع حسابه بوعد لا خلف فيه، وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر. ﴿حساباً يسيراً﴾ هو عرض عمله عليه كما فسر في حديث الصحيحين وفيه :"من نوقش الحساب هلك" وفي رواية :"من حوسب عذب". وقالت عائشة :"أليس يقول الله تعالى :﴿فسوف يحاسب حساباً يسيراً﴾ فقال : إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب"وإنما حوسب حساباً سهلاً لأنه كان يحاسب نفسه فلا تقع له المخالفة إلا
٥٧٨
ذهولاً، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفى عن سيئها.
﴿وينقلب﴾ أي : يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول ﴿إلى أهله﴾ أي : الذين أهله بهم في الجنة من الحور العين والآدميات والذريات إذا كانوا مؤمنين ﴿مسروراً﴾ أي : قد أوتي جنة وحريراً، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله يحاسب نفسه حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٧٧
﴿وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره﴾ وهو الكافر تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.
﴿فسوف يدعو﴾ أي : بوعد لا خلف في وقوعه ﴿ثبوراً﴾ يقول : يا ثبوراه، والثبور : الهلاك، كقوله تعالى :﴿دعوا هنالك ثبوراً﴾ (الفرقان : ١٣)
﴿ويصلى سعيراً﴾ أي : يدخل النار الشديدة. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام، والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وإذا فتح ورش غلظ اللام، وإذا أمال رقق والباقون بالفتح.
﴿إنه كان﴾ أي : بما هو له كالجبلة ﴿في أهله﴾ أي : عشيرته في الدنيا ﴿مسروراً﴾ قال القفال : أي : منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله تعالى، ولا يرجوه فأبدله الله تعالى بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل : إنّ قوله تعالى :﴿إنه كان في أهله مسروراً﴾ كقوله تعالى :﴿وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين﴾ (المطففين : ٣١)
أي : متنعمين في الدنيا معجبين بما هم عليه من الكفر بالله تعالى والتكذيب بالبعث، ويضحكون ممن آمن بالله تعالى، وصدّق بالحساب كما قال ﷺ "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". ﴿إنه ظنّ﴾ أي : لضعف نظره ﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : أنه ﴿لن يحور﴾ أي : لن يرجع إلى الله تعالى تكذيباً بالمعاد. يقال : لا يحور ولا يحول، أي : لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد :
*وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
** يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها : حوري، أي : ارجعي.
وقوله تعالى :﴿بلى﴾ إيجاب لما بعد النفي في لن يحور، أي : بلى ليحورنّ. ﴿إنّ ربه﴾ أي : الذي ابتدأ إنشاؤه ورباه ﴿كان﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿به بصيراً﴾ أي : من يوم خلقه إلى يوم بعثه، أو بأعماله لا ينساها. وقال عطاء : بصيراً بما سبق عليه في أمّ الكتاب من الشقاوة.
٥٧٩
واختلفوا في الشفق في قوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٧٩
﴿فلا أقسم بالشفق﴾ فقال مجاهد : هو النهار كله. وقال عكرمة : ما بقي من النهار. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. وقال قوم : هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة.


الصفحة التالية
Icon