وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الراء وصلاً لا وقفاً، وأثبتها ابن كثير في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وإثباتها هو الأصل لأنها لام فعل مضارع مرفوع، ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل فلأنّ الوقف محل استراحة وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء فقال : الليل لا يسري ولكن يسري فيه فهو مصروف فلما صرفه تجنبه حظه من الإعراب كقوله تعالى :﴿وما كانت أمك بغياً﴾ (مريم : ٢٨)
ولم يقل بغية، لأنه صرفه عن باغية وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم والجواب محذوف تقديره : لتعذبن يا كفار مكة بدليل قوله تعالى :﴿ألم تر كيف فعل ربك بعاد﴾ إلى قوله تعالى :﴿فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إنّ ربك لبالمرصاد﴾ وما بينهما اعتراض.
وقوله تعالى :﴿هل في ذلك﴾، أي : القسم والمقسم به ﴿قسم﴾، أي : حلف أو محلوف ﴿لذي حجر﴾ استفهام معناه التقرير، كقولك : ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت أو المراد منه التأكيد لما أقسم عليه كمن ذكر حجة بالغة، ثم قال : هل فيما ذكرته حجة والمعنى : إنّ من كان ذا لب علم أنّ ما أقسم الله تعالى به هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه والحجر العقل لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما يسمى عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاه من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء : يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها.
وقوله تعالى :﴿ألم تر﴾ خطاب للنبيّ ﷺ ولكن المراد به العموم والمراد بالرؤية العلم، أي : ألم تعلم يا أشرف رسلنا ﴿كيف فعل ربك﴾، أي : المحسن إليك بأنواع النعم ﴿بعاد﴾ ﴿إرم﴾ وهو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم إنهم جعلوا لفظ عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم : هاشم، ولبني تميم : تميم، ثم قيل : للأوّلين منهم عاد الأولى، وإرم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة. فإرم في قوله تعالى :﴿عاد إرم﴾ عطف بيان لعاد وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل : إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. وقوله تعالى :﴿ذات﴾، أي : صاحبة ﴿العماد﴾ فينظر فيه إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى : أنهم كانوا بدويين أهل عمد وطوال الأجسام
٦٠٩
على تشبيه قدودهم بالأعمدة. وقيل : ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى : أنها ذات أساطين وروي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد، وسيدخلها جل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠٨
وقوله تعالى :﴿التي لم يخلق مثلها في البلاد﴾ صفة أخرى لإرم فإن كانت للقبيلة فلم تخلق مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة. قال الزمخشري : كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيقلبها على الحي فيهلكهم. وروي عن مالك أنه كانت تمرّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وإن كانت للبلدة فلم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنّ الله تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه، فلأن تكونوا مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم أولى وقد ذكركم الله تعالى ثلاث قصص هذه القصة الأولى.
وأما الثانية : فهي في قوله تعالى :﴿وثمودا الذين جابوا﴾، أي : قطعوا ﴿الصخر﴾ جمع صخرة وهي الحجر واتخذوها بيوتاً كقوله تعالى :﴿وتنحتون من الجبال بيوتاً﴾ (الشعراء : ١٤٩)
. ﴿بالواد﴾، أي : وادي القرى، قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. وقيل : سبعة آلاف مدينة كلها من الحجارة.
تنبيه : أثبت الياء ورش وابن كثير وصلاً، وأثبتها وقفاً ابن كثير بخلاف عن قنبل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠٨
وأما القصة الثالثة : فهي في قوله تعالى :﴿وفرعون﴾، أي : وفعل بفرعون ﴿ذي الأوتاد﴾ واختلف في تسميته بذلك على وجهين :
أحدهما : أنه سمي بذلك عل كثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.


الصفحة التالية
Icon