وعن الحسن أنه كان إذا أتى على هذه الآية قال : إنّ الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة : كل شيء عذب الله تعالى به فهو سوط، وشبه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه.
﴿إنّ ربك﴾، أي : المحسن إليك بالرسالة ﴿لبالمرصاد﴾، أي : يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء ليجازيهم عليها والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهذا مثل لإرصاد العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل : له : أين ربك ؟
فقال : بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه فقال :﴿إنّ ربك لبالمرصاد﴾ يا أبا جعفر عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعده بذلك من الجبابرة. قال الزمخشري : فلله دره، أي : أسد فراس كان بين ثوبيه يدق الظلمة بإنكاره ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٠
وقوله تعالى :﴿فأما الإنسان﴾ متصل بقوله تعالى :﴿إنّ ربك لبالمرصاد﴾ فكأنه قيل : إنّ الله تعالى يريد من الإنسان الطاعة والسعي للعاقبة، وهو لا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ﴿إذا ما ابتلاه﴾، أي : اختبره بالنعمة ﴿ربه﴾، أي : الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره ﴿فأكرمه﴾، أي : جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال ﴿ونعمه﴾، أي : جعله متلذذاً مترفهاً بما وسع الله تعالى عليه.
وقوله تعالى :﴿فيقول﴾، أي : سروراً بذلك افتخاراً ﴿ربي أكرمن﴾، أي : فضلني بما أعطاني خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في أمّا من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتداء بالأنعام فيظن أنّ ذلك عن استحقاق فيرتفع به.
وكذا قوله تعالى :﴿وأما إذا ما ابتلاه فقدر﴾، أي : ضيق ﴿عليه رزقه﴾ التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه، أي : بالفقر ليوازي قسيمه ﴿فيقول﴾، أي : الإنسان بسبب الضيق ﴿ربي أهانن﴾ فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ويكون أكبر همه، وهذا في حق الكافر لقصور نظره وسوء فكره فيرى
٦١٢
الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته.
وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في عتبة بن ربيعة. وقيل : أبي بن خلف. فإن قيل : كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء ؟
أجيب : بأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى :﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ (الأنبياء : ٣٥)
. فإن قيل : هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه ؟
أجيب : بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً ومهيناً وغير مكرم ولا مهين. وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني بالهدية، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك. فإن قيل : قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله :﴿ربي أكرمن﴾ وذمّه عليه كما أنكر قوله :﴿أهانن﴾ وذمه عليه ؟
أجيب : بوجهين :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٢
أحدهما : إنما أنكر قوله :﴿ربي أكرمن﴾ وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته، وهو قصده على أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً مستحقاً ومستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله :﴿إنما أوتيته على علم عندي﴾ (القصص : ٧٨)
وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استحباب منه له، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
ثانيهما : أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله :﴿ربي أهانن﴾ يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه يسمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان. قال الزمخشري : ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى :﴿فأكرمه﴾ وقرأ ﴿ما ابتلاه﴾ في الموضعين حمزة بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وقرأ ﴿ربي أكرمن﴾ ﴿ربي أهانن﴾ نافع بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفاً ووصلاً، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. وقرأ ابن عامر ﴿فقدّر عليه رزقه﴾ بتشديد الدال والباقون بتخفيفها، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل : قدر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه.
ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى :