ويروى أنّ الله تعالى لما خلق العرش أظلت عمامة سوداء ونادت ماذا أمطر ؟
فأجيبت : أن امطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً، وقدّم ذكر الضحى وأخر الليل ؛ لأنه يشبه الموت.
وقوله تعالى :﴿ما ودّعك﴾، أي : تركك يا أشرف الرسل تركاً تحصل به فرقة كفرقة المودّع، ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع ﴿ربك﴾، أي : المحسن إليك جواب القسم ﴿وما قلى﴾، أي : وما أبغضك بغضاً ما، وتركت الكاف لأنه رأس آية كقوله تعالى :﴿والذاكرين الله كثيراً والذاكرات﴾ (الأحزاب : ٣٥)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٣٢
أي الله.
تنبيه : اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال أحدها ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال :"اشتكى رسول الله ﷺ ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب، فقالت : يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث" فنزلت.
ثانيها : ما روى أبو عمرو قال :"أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ ﷺ حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية".
ثالثها : ما روي "أنّ خولة كانت تخدم النبيّ ﷺ فقالت : إنّ جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ ﷺ أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال ﷺ يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه السلام لا يأتيني قالت خولة : فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله ﷺ ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال : يا خولة، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة.
ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي ﷺ عن التأخير فقال : أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة".
رابعها : ما روي "أنّ اليهود سألوا النبيّ ﷺ عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف ؟
فقال ﷺ سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى :﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله﴾ (الكهف : ٢٣)
فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت ﴿ما ودّعك ربك﴾" واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه. فقال ابن جرير : اثنا عشر يوماً. وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً. وقال مقاتل : أربعون يوماً. قالوا : وقال المشركون : إنّ محمداً ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ ﷺ "يا جبريل
٦٣٣
ما جئت حتى اشتقت إليك ؟
فقال جبريل عليه السلام : إني كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى :﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك﴾" (مريم : ٦٤)
﴿وللآخرة﴾ التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خاصة عن شوائب الكدر ﴿خير لك﴾، أي : لما فيها من الكرامات لك ﴿من الأولى﴾، أي : الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص وقيد تعالى بقوله سبحانه :﴿لك﴾ لأنها ليست خيراً لكل أحد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٣٢
قال البقاعي : إنّ الناس على أربعة أقسام : منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم : من له الشرّ فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشرّ في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شرّ في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال :"قال رسول الله ﷺ أنا أهل البيت أختار الله لنا الآخرة على الدنيا".
﴿ولسوف يعطيك﴾، أي : بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة ﴿ربك﴾، أي : المحسن إليك بسائر النعم في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلاً ﴿فترضى﴾، أي : به فقال ﷺ "إذاً لا أرضى وواحد من أمّتي في النار". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : أنّ النبيّ ﷺ رفع يديه وقال :"اللهمّ أمّتي أمّتي وبكى فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك". وعن أبي هريرة أنه ﷺ قال :"لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً" وعن عوف بن مالك أنّ رسول الله ﷺ قال :"أتاني آت من عند ربي يخبرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً". وعن شريح قال : سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ يقول : إنكم معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ (الزمر : ٥٣)