الإنسان} تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته وقوله تعالى :﴿من علق﴾ جمع علقة وهي الدم الجامد، فإذا جرى فهو المسفوح ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق، ولمشاكلة رؤس الآي أيضاً
وقوله تعالى :﴿اقرأ﴾ تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبيلغ، أو في الصلاة قال البيضاوي : ولعله لما قيل له :﴿اقرأ باسم ربك﴾ قال ما أنا بقارئ فقيل له اقرأ :﴿وربك الأكرم﴾ أي : الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي في إطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم حيث قال الأكرم :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٤٧
الذي علم ﴾ أي : بعد الحلم عن معاجلتهم بالعقاب جوداً منه تعالى من غير مانع من خوف عاقبة، ولا رجاء منفعة ﴿بالقلم ﴾ أي : الخط بالقلم.
﴿علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ فدل على كمال كرمه بأنه علَّم عباده مالم يعلموه، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم :
*وروا قم رقش كمثل أراقم ** قطف الخطا نيالة أقصى المدى*
*سود القوائم ما يجدّ مسيرها ** إلا إذا لعبت بها بيض المدى*
وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى، ولولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش فدل على كمال كرمه تعالى. وروى عبد الله بن عمر قال :"قلت : يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث قال : نعم فاكتب فإنّ الله تعالى علم بالقلم". ويروى أنّ سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال : ريح لا يبقى، . فقال : فما قيده ؟
قال : الكتابة. وعن عمر قال : خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده، ثم قال تعالى لسائر الحيوان : كن فكان، وهي القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه السلام.
وفيمن علم بالقلم ثلاثة أقوال : أحدها : قال كعب : أوّل من كتب بالقلم آدم عليه الصلاة والسلام. ثانيها : قال الضحاك : إدريس عليه السلام. ثالثها : أنه جميع من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله تعالى.
وقال القرطبي : الأقلام ثلاثة في الأصل : القلم الأوّل : الذي خلقه الله تعالى بيده وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ، والثاني : قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير والكوائن، والثالث : أقلام الناس يكتبون بها كلامهم ويصلون بها إلى مآربهم. وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ "لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة". قال بعض العلماء : وإنما حذرهم صلى الله عليه وسلم
٦٤٩
عن ذلك، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعاً إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سبباً للفتنة لأنها قد تكتب لمن تهوى، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب، والخط إشارة اليد وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، فهي أبلغ من اللسان فأحب ﷺ أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصيناً لها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٤٧
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، ﴿إن الإنسان﴾ أي : هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه﴿ليطغى﴾ أي : من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته.