وقال تعالى :﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾. فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض. وروي عن أبي بن كعب أنه قال : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان حلف بذلك ثلاث مرات، وعن ابن عمر قال : سئل رسول الله ﷺ وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال :"هي في كل رمضان" وقيل : هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف، يروى ذلك عن أبي حنيفة. وعن ابن مسعود أنه قال : من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان، أي : إلى أوّله فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين، وإن كان يوم الإثنين فليلة القدر إحدى وعشرين، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين. وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير قولان : أحدهما : أنها في كل شهره.
٦٥٥
واختلفوا في، أي : ليلة منه فقال ابن رزين : هي الليلة الأولى من رمضان، وقال الحسن البصري : السابعة عشر، وقال أنس : التاسعة عشر، وقال محمد بن إسحاق : الحادية والعشرون، وقال ابن عباس : الثالثة والعشرون، وقال أبيّ بن كعب : السابعة والعشرون. وقيل : التاسعة والعشرون، وقيل : ليلة الثلاثين، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه. والقول الثاني وهو ما عليه الأكثرون أنها مختصة بالعشر الأخير منه، واستدل لذلك بأشياء منها : ما روى عبادة بن الصامت "أنه سأل رسول الله ﷺ عن ليلة القدر فقال : في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر". ومنها : ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ "فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان". وعن عائشة رضي الله عنها قالت :"كان رسول الله ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها". وعنها قالت "كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله".
واختلفوا في أنها أي : ليلة من العشر، هل في ليلة من ليالي العشر كله، أو في أوتاره فقط، وهل تلزم ليلة بعينها، أو تنتقل في جميعه أقوال. والذي عليه الأكثر أنها في جميعه، ولكن أرجاها أوتاره وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين يدل للأوّل خبر الصحيحين وللثاني خبر مسلم وأنها تلزم عنده ليلة بعينها. وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة : أنها متنقلة في ليالي العشر جمعاً بين الأحاديث، قال النووي : وهو قويّ. وقال في مجموعه أنه الظاهر المختار وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر، وبعضهم بأشفاعه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥٤
وقال ابن عباس وأبيّ : هي ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات، وهي تسعة أحرف، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكن سبعة وعشرين، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة، وقال : إنها ثلاثون كلمة وفاقاً، وقوله تعالى :﴿هي﴾ السابع والعشرون، وهي كناية عن هذه الليلة فبان أنها ليلة السابع والعشرين، وهو استنباط لطيف وليس بدليل كما قيل : وفيها نحو الثلاثين قولاً وبضع وعشرون حديثاً وأفردت بالتصنيف، وفيما ذكرناه كفاية.
وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوهاً :
أحدها : أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها، أو جميع رمضان على القول به، أو جميع العشر الأخير على القول به، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم، وأخفى
٦٥٦
الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعاً في إدراكها، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة.
ثانيها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته، ويقول : تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون. ثالثها : ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها.