ثم ذكر الله تعالى فضلها من ثلاثة أوجه : أحدها : ما ذكره بقوله سبحانه :﴿ليلة القدر﴾ أي : التي خصصناها بإنزالنا فيها ﴿خير من ألف شهر﴾ ليس فيها ليلة القدر فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها ليلة قدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما "ذكر لرسول الله ﷺ رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله ﷺ لذلك وتمنى ذلك لأمّته، فقال : يا رب، جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال تعالى :﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة"، أي : فهي من خصائص هذه الأمة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥٤
وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أنّ رسول الله ﷺ أري أعمار الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له : عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد، وهي أفضل ليالي السنة، ويدخل في ذلك ليلة الإسراء فهي أفضل منها إن لم تكن ليلة الإسراء ليلة القدر، كما قيل : إن الإسراء كان في رمضان، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع فيكتب فيها جميع خير السنة وشرّها ورزقها وأجلها وبلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة، ولا يشكل ذلك بما قيل : إن الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى، لما ورد أنّ الله تعالى يأمر بنسخ ما يكون في السنة من الآجال والأمراض والأرزاق ونحوها في ليلة النصف من شعبان، فإذا كان ليلة القدر فيسلمها إلى أربابها. وقيل : يقدّر في ليلة النصف من شعبان الآجال والأمراض، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة.
الوجه الثاني : من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره.
﴿تنزل﴾ أي : تنزلاً متدرجاً متواصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء ﴿الملائكة﴾ أي : إلى الأرض. روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى ﴿والروح﴾ أي : جبريل عليه السلام ﴿فيها﴾ أي : في الليلة ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبيّ ﷺ ولواء
٦٥٧
على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر سيناء، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم، يقول : يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله ﷺ قال :"إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله تعالى". وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون، وظاهر الآية نزول الجميع وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجاً فوجاً كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجاً بعد فوج، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة، أي : ينزل فوج ويصعد فوج والله أعلم بذلك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥٤
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى، وقال بعضهم : الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس أعظم من الدنيا، وفي كل رأس ألف وجه، وفي كل وجه ألف فم، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السموات السبع سجداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد ﷺ بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر.


الصفحة التالية
Icon