تنبيه : دين الله تعالى هو الإسلام لقوله تعالى :﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران : ١٩)
وقال تعالى :﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه﴾ (آل عمران : ٨٥)
وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية إشارة على أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً وللدّين أسماء أخر منها الصراط قال تعالى :﴿صراط الله﴾ (الشورى : ٥٣)
ومنها النور ﴿يريدون ليطفئوا نور الله﴾ (التوبة : ٣٢)
ومنها الهدى قال تعالى :﴿هدى الله يهدي به من يشاء﴾ (الأنعام : ٨٨)
ومنها العروة الوثقى قال تعالى :﴿ومن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ (البقرة : ٢٥٦)
ومنها الحبل المتين قال تعالى :﴿واعتصموا بحبل الله﴾ (آل عمران : ١٠٣)
ومنها صبغة الله، ومنها فطرة الله.
تنبيه : جمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين على أنّ إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية قالوا : إنّ الله تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه ﷺ فلو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ولإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولإثبات الصفات والتنزيهات بالدليل والعلم بأنّ أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري فعلمنا أنّ إيمان المقلد صحيح.
فإن قيل : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأنّ أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل كانوا جاهلين بالتفاصيل ؟
أجيب : بأنّ الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإنّ الدليل إذا كان مثلاً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها وكان في المقدّمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة.
ولما كمل الدين أمر الله تعالى نبيه ﷺ بأن يشتغل بنفسه فقال عز من قائل :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٢
فسبح﴾
، أي : نزه بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها تسبيحاً ملتبساً ﴿بحمد ربك﴾، أي : الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين المحسن إليك بجميع ذلك، لأنّ هذا كله لكرامتك وإلا فهو عزيز
٧٠٤
حميد على كل حال تعجباً لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه، أو فصل له حامداً على نعمه قاله ابن عباس. روي أنه ﷺ "لما دخل مكة بدأ بالسجود فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات". ﴿واستغفره﴾، أي : اطلب غفرانه لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني، فإنّ الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى، والمحل الأقدس، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت :"ما صلى رسول الله ﷺ صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول : استغفر الله وأتوب إليه، قال : فإني أمرت بها، ثم قرأ ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ إلى آخرها". وقال عكرمة : لم يكن النبيّ ﷺ قط أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها. وقال مقاتل : لما نزلت قرأها النبيّ ﷺ على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبيّ ﷺ "ما يبكيك يا عمّ ؟
قال : نعيت إليك نفسك، . قال : إنه كما قلت، فعاش بعدها ستون يوماً ما رؤى ضاحكاً مستبشراً" وقيل : نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع فبكى عمر والعباس، فقيل لهما : هذا يوم فرح، فقالا : لا بل فيه نعي النبيّ ﷺ وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزل ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي﴾ (المائدة : ٣)
فعاش ﷺ بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزلت ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ (التوبة : ١٢٨)
فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزل :﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله﴾ (البقرة : ٢٨١)
فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل : سبعة أيام، وقيل : غير ذلك. وقال الرازي : اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله ﷺ وذلك لوجوه :
أحدها : أنهم عرفوا ذلك لما خطب ﷺ عقب السورة وذكر التخيير، وهو قوله ﷺ في خطبته لما نزلت هذه السورة :"إنّ عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله فقال أبو بكر رضي الله عنه : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٢
ثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يستعقبه الزوال كما قيل ::
*إذا تمّ أمر بدا نقصه ** توقع زوالاً إذا قيل تم*


الصفحة التالية
Icon