﴿بل كذبوا بالحق﴾ أي : الأمر الثابت الذي لا أثبت منه إضراب ثان قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأوّل للدّلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحقّ ﴿لما﴾ أي : حين ﴿جاءهم﴾ أي : لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس حسداً منهم من غير تأمّل لما قالوه ولا تدبر ولا نظر فيه ولا تذكر فلذلك قالوا ما لا يعقل من أنّ من قدر على إيجاد شيء من العدم وابدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه له ﴿فهم﴾ أي : لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف ﴿في أمر مريج﴾ أي : مضطرب جدّاً مختلط من المرج الذي هو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة فهم تارة يقولون سحر وتارة كهانة وتارة شعر وتارة كذب وتارة غير ذلك، لا يثبتون على شيء واحد. والاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على الإبطال كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقية قال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم.
٦٨
ثم ذكر تعالى الدليل الذي يدفع قولهم ذلك رجع بعيد بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
أفلم ينظروا﴾ أي : بعين البصر والبصيرة ﴿إلى السماء﴾ أي : المحيطة بهم ﴿فوقهم﴾ فإن غيرها إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل ﴿كيف بنيناها﴾ أي : أوجدناها على مالنا من المجد والعز مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد ﴿وزيناها﴾ أي بما فيها من الكواكب الكبار والصغار السيارة والثابتة ﴿وما﴾ أي : والحال أن ما ﴿لها﴾ وأكد النفي بقوله تعالى :﴿من فروج﴾ أي : فتوق وطاقات وشقوق بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء.
﴿والأرض﴾ أي : المحيطة بهم التي هم عليها ﴿مددناها﴾ أي : بسطناها بما لنا من العظمة ﴿وألقينا﴾ أي : بعظمتنا ﴿فيها رواسي﴾ أي جبالاً ثوابت كانت سبباً لثباتها وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق والمراسي التي تعالجونها أنتم من تحت ﴿وأنبتنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿فيها﴾ أي الأرض وعظم قدرته بالتبعيض فقال تعالى :﴿من كل زوج﴾ أي صنف من النبات تزاوجت أشكاله ﴿بهيجٍ﴾ أي هي في غاية الرونق والإعجاب فكان مع كونه رزقاً منتزهاً.
﴿تبصرةً﴾ أي : جعلنا هذه الأشياء كلها لأجل أن تنظروا بأبصاركم وتتفكروا ببصائركم فتعبروا منها إلى صانعها فتعلموا ما له من العظمة ﴿وذكرى﴾ أي : ولتذكروا بها تذكراً عظيماً بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أنّ صانعها لا يعجزه شيء وأنه محيط بجميع صفات الكمال وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : بالإمالة محضة. وقرأ ورش : بالإمالة بين بين والباقون بالفتح.
تنبيه : قال الرازي : يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى السماء والأرض أي خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ويدل على ذلك أنّ السماء وزينتها غير مستجدّة في كل عام فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان. وأمّا الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفها فتذكر فالسماء تبصرة والأرض تذكرة ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك.
والفرق بين التذكرة والتبصرة هو أنّ فيهما آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجدّدة مذكرة عند التناسي ﴿لكل عبدٍ﴾ أي : لتبصر وتذكر كل عبد بماله من النقص وبمادل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه ﴿منيبٍ﴾ أي : رجاع عما خطه إليه طبعه إلى ما يغلبه عليه عقله فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود الصفات إلى علم الذات.
ثم ذكر تعالى دليلاً بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
﴿ونزلنا من السماء﴾ أي : المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر ﴿ماء﴾ أي شيئاً فشيئاً في أوقات وعلى سبيل التقاطر ولولا عظمتنا التي لا تضاهي لغلب بما له من الثقل والميوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المسرّة وعادت المنفعة مضرّة ﴿مباركاً﴾ أي : نافعاً جدّاً كثير لبركة وفيه حياة كل شيء، وهو المطر فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت ﴿فأنبتنا﴾ أي : بما لنا من القدرة الباهرة ﴿به جناتٍ﴾ من الشجر والثمر والزرع والريحان وغيره مما تجمعه البساتين فتجن أي تستر الداخل فيها ﴿وحب الحصيد﴾ أي : النجم الذي من شأنه أنه يحصد كالبر والشعير ونحوهما وقوله تعالى :
﴿والنخل﴾ منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل وقوله تعالى
٦٩
﴿باسقات﴾ أي : طوالاً حال مقدّرة لأنها وقت الإثبات لم تكن طوالاً والبسوق الطول يقال بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ومنه قول أبي نوفل في ابن هبيرة :
*يا ابن الذين بمجدهم ** بسقتهم قيس فزاره*
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقاً أي طالت قال الشاعر :
*لنا خمر وليست خمر كرم ** ولكن من نتاج الباسقات*
*كرام في السماء ذهبن طولا ** وفات ثمارها أيدي الجناة*