﴿لقد كنت﴾ أي : كوناً كأنه جبلة لك ﴿في غفلة﴾ أي : عظيمة محيطة بك ناشئة لك ﴿من هذا﴾ أي : من تصوّر هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدّة جلائه خفي على من اتبع الشهوات ﴿فكشفنا﴾ بعظمتنا بالموت ثم البعث ﴿عنك غطاءك﴾ الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك من الغفلة بالآمال في الحال والمآل وسائر الحظوظ والشهوات ﴿فبصرك اليوم﴾ أي بعد البعث ﴿حديد﴾ أي في غاية الحدّة والنفوذ فلذا تقرّ بما كنت تنكر في الدنيا. وقال مجاهد : يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك. والمعنى : أزلنا غفلتك فبصرك اليوم جديد وكان من قبل كليلاً.
واختلف في القرين في قوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٢
﴿وقال قرينه﴾ فأكثر المفسرين على أنه الملك الموكل به فيقول ﴿هذا ما﴾ أي : الذي ﴿لدي عتيد﴾ أي : حاضر ونقل الكرماني عن ابن عباس رضى الله عنهما : أنه الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد فزين له الكفر والعصيان. ويدل لهذا قوله تعالى :﴿وقيضنا لهم قرناء﴾ (فصلت : ٢٥)
وقال تعالى :﴿نقيض له شيطاناً فهو له قرين﴾
٧٤
(الزخرف : ٣٦)
وقال تعالى ﴿فبئس القرين﴾ فالإشارة بهذا إلى المسوق المرتكب الفجور والفسوق. والعتيد معناه المعتدّ للنار ومعناه أن الشيطان يقول هذا العاصي هو شيء عندي معتدّ لجهنم أعددته لها بالإغواء والإضلال وقوله تعالى :
﴿ألقيا في جهنم﴾ أي : النار التي تلقى الملقي فيها بما كان يعامل به عباد الله تعالى من الكبر والعبوسة ﴿كل كفار﴾ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد أو للملكين من خزنة النار أو الواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كأنه قيل ألقي ألقي وقيل : أراد ألقيا بالنون الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مجرى الوقف وقيل العرب : تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين تأكيداً كقوله :
*فإن تزجراني يا ابن عفان أزدجر ** وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا*
قال ابن عادل وقيل المأمور مثنى وهذا هو الحق لأنّ المراد ملكان يفعلان ذلك ا. ه وهو القول المتقدّم ﴿عنيد﴾ وهو المبالغ في ستر الحق والمعاداة لأهله بغير حجة حمية وأنفة نظراً إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبراً وتكبراً على ما عند غيره ازدراء له كائناً من كان.
﴿مناعٍ﴾ أي : كثير المنع ﴿للخير﴾ من المال وغيره من كل معروف يعلق بالمال والمقال والفعال.
وقيل المراد الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه ﴿معتدٍ﴾ أي : مجاوز للحدود ﴿مريبٍ﴾ أي : داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أهل الدين. وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٤
الذي جعل مع الله﴾ أي : الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿إلهاً آخر﴾ يجوز أن يكون منصوباً على الذمّ أو على البدل من كل وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار أو مرفوعاً بالابتداء والخبر ﴿فألقياه في العذاب﴾ أي : الذي يزيل كل عذوبة ﴿الشديد﴾ ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هو الذي جعل ويكون فألقياه تأكيداً.
﴿قال قرينه﴾ منادياً بإسقاط الأداة كدأب أهل القرب إيهاماً أنه منهم ﴿ربنا﴾ أي : أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم ﴿ما أطغيته﴾ أي : ما أوقعته فيما كان فيه من الطغيان فإني لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك ﴿ولكن كان﴾ أي : بجبلته وطبعه ﴿في ضلال بعيد﴾ أي : محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله تعالى.
تنبيه : هذا جواب لكلام مقدّر فإن الكافر حينما يلقى في النار يقول ربنا أطغاني شيطاني فيقول ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى :﴿لا تختصموا لدي﴾ لأنّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة ص ﴿قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم﴾ (ص : ٦٠)
إلى قوله تعالى ﴿إنّ ذلك لحق تخاصم أهل النار﴾ (ص : ٦٤)
قال الزمخشري : وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدّمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد.
قال الرازي : وجاءت هذه الآية بلا واو وفي الأولى بواو عاطفة لأن الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين فإن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول
٧٥
وفي الثانية لم يجد هنا معنيان مجتمعان حتى تذكر الواو فإن الفاء في قوله تعالى :﴿فألقياه في العذاب﴾ لا تناسب قوله تعالى :﴿قال قرينه ربنا ما أطغيته﴾ فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف.
فإن قيل : كيف قال ما أطغيته مع أنه قال لأغوينهم أجمعين. أجيب : بأن المراد من قوله لأغوينهم أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة فلا تتركها يقال أنه يضله كذا هنا فقوله ما أطغيته أي ما كان ابتداء الغي مني. وقوله تعالى :