﴿قال﴾ أي : الله تعالى المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم بذلك في الأزل ﴿لا تختصموا﴾ أي : لا توقعوا الخصومة بهذا الجدّ والاجتهاد استئناف كان قائلاً يقول فماذا قال الله تعالى. فأجيب : يقال لا تختصموا وقوله تعالى :﴿لدي﴾ أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يديّ. وقوله تعالى :﴿وقد قدّمت إليكم بالوعيد﴾ أي : التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفر والعدوان جملة حالية ولا بدّ من تأويلها وذلك أن النهي في الآخرة وتقدّمه الوعيد في الدنيا. فاختلف الزمان فكيف يصح جعلها حالية وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قدّمت وزمان الصحة وزمان النهي واحد وقدّمت يجوز أن يكون بمعنى تقدمت فتكون الواو للحال ولا بدّ من حذف مضاف أي : وقد تقدّم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ويجوز أن يكون قدمت على حاله تعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد. كقوله تعالى :﴿تنبت بالدهن﴾ (المؤمنون : ٢)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٤
على قول من قال بزيادتها هناك وقيل الباء هنا للمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بلجامه أي معه فكأنه قال تعالى قدّمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه والإنذار.
﴿ما يبدّل﴾ أي : يغير بوجه من الوجوه ﴿القول لدّي﴾ أي : الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحيط بها أحد من خلقي وعبر بما التي هي للحاضر دون لا التي للمستقبل لأن الأوقات كلها عنده حاضرة ﴿وما أنا﴾ وأكد النفي بقوله تعالى :﴿بظلام للعبيد﴾ فأعذبهم بغير ظلم.
فإن قيل : الظلام مبالغة في الظلم ويلزم من انتفائه إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كثير الكذب، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب، لجواز أن يقال ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً. فقوله تعالى ﴿ما أنا بظلام﴾ لا يفهم منه نفي أصل الظلم وأنّ الله ليس بظالم. أجيب بأربعة أجوبة :
أحدها : أنّ الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر فتكون اللام في قوله تعالى ﴿للعبيد﴾ لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم لقوله تعالى :﴿لا ظلم اليوم﴾ (غافر : ١٧)
ثانيها : قال الزمخشري : إن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم وما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال الله تعالى :﴿وما أنا بظلام للعبيد﴾ أي : في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق فيّ طاقة بهم ولم يبق فيّ موضع لهم فهل من مزيد استفهام استنكار.
٧٦
ثالثها : أنه لمقابلة الجمع بالجمع والمعنى أنّ ذلك اليوم مع أني ألقي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم لأنه تعالى قال :﴿وما أنا بظلام للعبيد﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٤
﴿يوم نقول﴾ أي على مالنا من العظمة ﴿لجهنم﴾ ولم يقل ما أنا بظلام في جميع الأزمان وخصص بالعبيد ولم يطلق فلذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت لأنّ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه لأنه نفي كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونه ظالماً ونفي كونه ظلاماً للعبيد ولم يلزم منه كونه ظلاماً لغيرهم.
تنبيه : يحتمل أن يكون المراد بالعبيد الكفار كقوله تعالى :﴿يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول﴾ (يس : ٣٠)
الآية والمعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين.
والمعنى أنّ الله تعالى يقول : لو بدّلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأت بما أتى به المؤمن ما يناله المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد وهذا معنى قوله تعالى :﴿لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة﴾ (الحشر : ٢٠)
ويحتمل أن يكون المراد التعميم وهذا أظهر. وقوله تعالى لجهنم أي التي هي دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم ﴿هل امتلأت﴾ استفهام تحقيق لوعده عليها وهو قوله تعالى ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ (هود : ١١٩)
﴿وتقول﴾ بصورة الاستفهام كالسؤال ﴿هل من مزيد﴾ أي : قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكار. وقيل بمعنى الاستزادة رواه أبو صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله تعالى هل امتلأت قبل دخول جميع أهلها فيها.


الصفحة التالية
Icon