وروي عن ابن عباس رضى الله عنهما "أنّ الله تعالى سبقت كلمته لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت فتقول هل من مزيد قط قط قد امتلأت وليس فيّ مزيد" وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله ﷺ قال :"لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش وفي رواية رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض وتقول : قط قط بعد ذلك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله تعالى لها خلقاً فيسكنهم فضول
٧٧
الجنة" ولأبي هريرة رضى الله عنه نحوه ولا يظلم الله تعالى من خلقه أحداً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٧
تنبيه : هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان :
أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نفوّض بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها أولها معنىً يليق بها وظاهرها غير مراد.
المذهب الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين أنها تؤوّل بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل الحديث فقيل المراد بالقدم التقدّم وهو شائع في اللغة والمعنى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل : المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل : يحتمل أن في المخلوقات من يسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض أظهر التأويلات أنهم استحقوها وخلقوا لها.
قال المتكلمون : ولا بدّ من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل العقلي القطعي على استحالة الجارحة على الله تعالى وقولها قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت وفيها ثلاث لغات إسكان الطاء وكسرها منوّنة وغير منوّنة ولما ذكر النار التي هي دار الفجار وقدّمها لأنّ المقام للإنذار اتبعها دار الأبرار.
فقال تعالى سارّاً لهم بإسقاط مؤنة المسير وطي مشقة البعد.
﴿وأزلفت الجنة﴾ أي : قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة ﴿للمتقين﴾ أي : الغريقين في هذا الوصف فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه في الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا. وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم غير هذا الوصف فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. وقوله تعالى :﴿غير بعيد﴾ يجوز أن يكون حالاً من الجنة ولم يؤنث لأنها بمعنى البستان أو لأنّ فعيلاً لا يؤنث لأنه بزنة المصادر قاله الزمخشري. ومنعه أبو حيان وتقدّم الكلام على ذلك في قوله تعالى :﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾ (الأعراف : ٥٦)
ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني أي مكاناً غير بعيد ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد وظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال أو شيئاً غير بعيد فإن قيل : ما وجه التقريب والجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب. أجيب : من أوجه. أوّلها : أنّ الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانتقام إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل : فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة فما فائدة قوله تعالى :﴿أزلفت الجنة﴾ أجيب بأن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه وأنه ممن يمشي إليه ثانيها : قريب من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني. ثالثها : أنّ الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن. ويحتمل أنها أزلفت بمعنى جمعت محاسنها لأنها مخلوقة وأما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحق بها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٧
وقوله تعالى :﴿هذا﴾ أي : الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم ﴿ما﴾ أي : الأمر الذي
٧٨
﴿توعدون﴾ أي : وقع الوعد لكم به في الدنيا يجوز فيه وجهان.
أحدهما : أن يكون معترضاً بين البدل والمبدل منه وذلك أنّ ﴿لكل أوّاب﴾ أي : رجاع إلى طاعة الله تعالى بدل من المتقين بإعادة العامل.
ثانيهما : أن يكون منصوباً بقول مضمر ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم. وقرأ ابن كثير : بالياء على الغيبة. والباقون : بالتاء على الخطاب ونسب أبو حيان قراءة الياء لابن كثير ولأبي عمرو وإنما هي لابن كثير فقط. وقال سعيد بن المسيب : الأوّاب هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال الشعبيّ ومجاهد هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقال ابن عباس رضى الله عنهما وعطاء : هو المسبح من قوله تعالى ﴿يا جبال أوّبي معه﴾ (سبأ : ١٠)


الصفحة التالية
Icon