وقال قتادة : هو المصلي. وقوله تعالى ﴿حفيظ﴾ اختلف فيه. فقال ابن عباس رضى الله عنهما : هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أيضاً : الحفيظ لأمر الله. وقال قتادة : الحفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه. والأوّاب والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ ثم أبدل من كلٍ تنميماً لبيان المتقين قوله تعالى :
﴿من خشي﴾ أي : خاف ونبه على كثرة خشيته بقوله تعالى :﴿الرحمن﴾ لأنه إذا خافه مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى وقال القشيري : التعبير بذلك للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع، قال : ولذلك لم يقل الجبار أو القهار. ويقال الخشية ألطف من الخوف فكأنها قريبة من الهيبة وقوله تعالى :﴿بالغيب﴾ حال أي غائباً عنه فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما. وقيل الباء للمصاحبة أي مصاحب له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة بل استغنى بالبراهين القطيعة التي منها أنه مربوب وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشى أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب ومعنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب ولم يره.
وقال الضحاك والسدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. وقال الحسن : إذا أرخى الستور وأغلق الباب. وقوله تعالى ﴿وجاء﴾ أي : بعد الموت ﴿بقلب منيب﴾ أي : راجع إلى الله تعالى صفة مدح لأنّ شأن الخائف أن يهرب فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفرار منه والباء في ﴿بقلب﴾ إما للتعدية وإما للمصاحبة وإما للسببية، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى :﴿إذ جاء ربه بقلب سليم﴾ (الصافات : ٨٤)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٧
من الشرك والضمير في قوله تعالى.
﴿ادخلوها﴾ عائد إلى الجنة وقوله تعالى :﴿بسلام﴾ حال من فاعل ادخلوها أي سالمين من العذاب والهموم فهي حال مقارنة أو بسلام من الله تعالى وملائكته عليهم فهي حال مقدرة كقوله تعالى ﴿فادخلوها خالدين﴾ (الزمر : ٧٣)
كذا قيل. قال ابن عادل : وفيه نظر إذ لا مانع من مقارنة تسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فادخلوها خالدين فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول ﴿ذلك﴾ أي : اليوم الذي حصل فيه الدخول ﴿يوم الخلود﴾ أي : الدوام في الجنة الذي لا آخر له ولا نفاد لشيء من لذاته أصلاً ولذلك وصل به قوله تعالى جواباً لمن قال على أيّ وجه خلودهم.
﴿لهم﴾ بظواهرهم وبواطنهم ﴿ما يشاؤون﴾ أي : تتجدد مشيئتهم أو يمكن مشيئتهم له ﴿فيها﴾ أي : الجنة ﴿ولدينا﴾ أي : عندنا من الأمور التي هي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم
٧٩
مستغرباً ﴿مزيد﴾ أي : مما لا يدخل تحت أوهامهم ليشاؤوه فإن شياق الامتنان يدل على أنّ تنوينه للتعظيم والتعبير ب﴿لدي﴾ يؤكد ذلك فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى قال :﴿ادخلوها بسلام﴾ على المخاطبة ثم قال لهم ولم يقل لكم أجيب : من وجوه أولها : أن قوله تعالى :﴿ادخلوها﴾ فيه مقدر أي فيقال لهم ادخلوها فلا يكون التفاتاً.
ثانيها : أنه التفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول غير مخلّ بهم في غيبتهم وحضورهم ففي حضورهم الحبور في غيبتهم الحور والقصور.
ثالثها : أنه يجوز أن يكون قوله تعالى لهم كلاماً مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أنّ لهم ما يشاءون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاؤون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه. والمزيد يحتمل أن يكون معناه الزيادة كقوله تعالى :﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ (يونس : ٢٦)
ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون ويأملون. قال أنس وجابر : وهو النظر إلى وجه الله الكريم. قيل يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته فهذا هو المزيد. ولما ذكر تعالى أوّ ل السورة تكذيب الأمم السابقة ذكر هنا إهلاك قرون ماضية. بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٧
﴿وكم أهلكنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿قبلهم من قرن﴾ أي : جيل هم في غاية القوة وزاد في بيان القوّة قوله تعالى :﴿هم أشدّ منهم﴾ أي : من قريش ﴿بطشاً﴾ أي : قوّة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة.
تنبيه : كم منصوب بما بعده وقدم إما لأنه استفهام وإما لأن كم الخبرية تجري مجرى كم الاستفهامية في التصدير ومن قرن تمييز هم أشد صفة إمّا لكم وإما لقرن والفاء في قوله تعالى :﴿فنقبوا﴾ عاطفة على المعنى كأنه قيل اشتدّ بطشهم فنقبوا :﴿في البلاد﴾ والضمير في نقبوا ما للقرن المتقدّم وهو الظاهر وإما لقريش والتنقيب التنقير والتفتيش ومعناه التطواف في البلاد قال الحارث بن حلزة :
*نقبوا في البلاد من حذر المو ** ت وجالوا في الأرض كل مجال*
وقال امرؤ القيس :
*وقد نقبت في الآفاق حتى ** رضيت من الغنيمة بالإياب*