ولما كان التقدير ولم يسلموا مع كثرة تنقيبهم توجه سؤال تنبيه للغافل الذاهل وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل بقوله تعالى ﴿هل من محيص﴾ أي : معدل ومحيد ومهرب وإن دق من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في ردّ أمرنا.
﴿إن في ذلك﴾ أي : فيما ذكر في هذه السورة من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة ﴿لذكري﴾ أي : تذكيراً عظيماً جدّاً ﴿لمن كان﴾ أي : كوناً عظيماً ﴿له قلب﴾ أي عقل في غاية العظمة فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتبر به ومن لم يكن كذلك فلا قلب له سليم بل له قلب لاه ﴿أو ألقى السمع﴾ أي : استمع الوعظ بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل ﴿وهو﴾
٨٠
أي : والحال أنه في حال إلقائه ﴿شهيد﴾ أي : حاضر بكليته فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه فيتذكر وعطف على قوله تعالى :﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ قوله تعالى :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٠
ولقد خلقنا﴾
أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها ﴿السموات والأرض﴾ أي : على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع ﴿وما بينهما﴾ من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها ﴿في ستة أيام﴾ الأرض في يومين. ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ولكنه تعالى سنّ لنا التأنّي بذلك ﴿وما مسنا﴾ لأجل مالنا من العظمة أدنى مس. وعمم في النفي فقال تعالى :﴿من لغوب﴾ أي : إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه فكأن تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرّف.
﴿فاصبر﴾ يا أشرف الخلق ﴿على ما يقولون﴾ أي : اليهود وغيرهم من إنكار البعث والتشبيه وغير ذلك فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على البعث وغيره ﴿وسبح﴾ أي : أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص ملتبساً ﴿بحمد ربك﴾ أي : بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها مفضلاً لك على جميع الخلق وقوله تعالى :﴿قبل طلوع الشمس وقبل الغروب﴾ إشارة إلى طرفي النهار.
وقوله تعالى :﴿ومن الليل فسبحه﴾ إشارة إلى زلفى من الليل وتقريره أنه ﷺ كان مشتغلاً بأمرين أحدهما عبادة الله تعالى والثاني هداية الخلق فإذا لم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة قبل الطلوع وقبل الغروب، لأنهما وقتا اجتماعهم ويكون المراد بقوله تعالى : ومن الليل أوّله لأنه أيضاً وقت اجتماعهم وقال أكثر المفسرين قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان والتهجد ﴿وأدبار السجود﴾ التنقل بعد المكتوبات وقيل : الوتر بعد العشاء وقال مجاهد ومن الليل : يعني صلاة الليل أيّ وقت صلى. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسر الهمزة على أنه مصدر قام مقام ظرف الزمان كقولهم آتيك خفوق النجم وخلافة الحجاج ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انقضائها وتمامها والباقون بالفتح جمع دبر وهو آخر الليل وعقبها ومنه قول أوس :
*على دبر الشهر الحرام بأرضنا ** وما حولها جدب سنون تلمع*
ولم يختلفوا في وأدبار النجوم وقوله تعالى : وأدبار معطوف إما على قبل الغروب وإما على من الليل وقال عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما : إدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي عنه مرفوعاً. قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين عن عائشة رضي الله عنها قالت :"ما كان رسول الله ﷺ على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح" وعن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" يعني بذلك سنة الفجر
٨١
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه "ما أحصي ما سمعت رسول الله ﷺ يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد" وعن مجاهد وأدبار السجود : هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٠


الصفحة التالية
Icon