﴿يسألون﴾ النبيّ استهزاءً ﴿أيان﴾ أي متى وأي حين ﴿يوم الدين﴾ أي وقوع الجزاء الذي تخبرنا به ولولا أنهم بهذه الحالة لتذكروا من أنفسهم أنه ليس أحد منهم يترك عبيده وإجراءه في عمل من الأعمال إلا وهو يحاسبهم على أعمالهم، وينظر قطعاً في أحوالهم ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم فكيف الظن بأحكم الحاكمين أن يترك عبيده الذين خلقهم على هذا النظام المحكم وأبدع لهم هذين الخافقين وهيأ لأجلهم فيهما كل ما يحتاجون إليه فيتركهم سدى ويوجدهم عبثاً ؟
وقوله تعالى :﴿يوم هم﴾ منصوب بمضمر، أي : الجزاء كائن يوم هم ﴿على النار يفتنون﴾ أي يعذبون فيها جواب لسؤالهم أيان يوم الدين، وقال الرازي يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون جواباً عن قولهم أيان يقع فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب للعلم، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين، بل قال ﴿يوم هم على النار يفتنون﴾ فجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأوّل، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فلو قال قائل : متى يقدم زيد فلو أجيب بقوله : يوم يقدم رفيقه، ولا يعلم يوم قدوم الرفيق لم يصح هذا الجواب.
ثانيهما : أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه في قوله تعالى :
﴿ذوقوا فتنتكم﴾ أي تعذيبكم فإن قيل : هذا يفضي إلى الإضمار أجيب : بأن الإضمار لا بدّ منه لأنّ قوله تعالى :﴿ذوقوا فتنتكم﴾ لا يتصل بما قبله إلا بإضمار يقال ﴿هذا﴾ أي العذاب الملون ﴿الذي كنتم به تستعجلون﴾ في الدنيا استهزاء.
ولما بين تعالى حال المجرمين بين بعده حال المتقين فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٤
﴿إن المتقين﴾ أي الذين كانت التقوى لهم وصفاً ثابتاً ﴿في جنات﴾ أي بساتين عظيمة تجن داخلها أي تستره من كثرة ظلالها لكثرة أشجارها وعظمها ﴿وعيون﴾ جارية في خلال الجنان.
تنبيه : المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك وأعلاها أن يتقي الدنيا والآخرة، وأدنى درجات المتقي الجنة فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة.
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائيّ بكسر العين والباقون بالضم.
وقوله تعالى :
﴿آخذين﴾ حال من الضمير في خبر إن. وقوله تعالى :﴿وما آتاهم ربهم﴾ أي المحسن إليهم المدبر لهم بتمام علمه وشامل قدرته إن كان مما في الجنة فتكون حالاً حقيقية وإن كان مما آتاهم من أمره ونهيه في الدنيا فتكون حالاً محكية لاختلاف الزمانين.
تنبيه : اعلم أن الله تعالى وحد الجنة تارة قال تعالى :﴿مثل الجنة﴾ (الرعد : ٣٥)
وأخرى جمعها كقوله تعالى هنا :﴿إنّ المتقين في جنات﴾ وتارة ثناها قال تعالى :﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرحمن : ٤٦)
والحكمة فيه أنّ الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما جمعها فإنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنات لا يحصرها عدد وأما تثنيتها فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في سورة الرحمن وهو قوله تعالى :﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرحمن : ٤٦)
فقيل : جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته، وقيل جنة لخائف الإنس وجنة لخائف الجن فيكون من باب التوزيع قال الرازي : غير أنا نقول ههنا إنّ الله تعالى عند الوعد وحد الجنة وكذلك عند الشراء فقال تعالى ﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾ (التوبة : ١١١)
وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجنات ثم يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود.
اسم الكتاب : تفسير السراج المنير الشربيني
ومعنى آخذين : قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له وقيل : قابلين قبول رضا كقوله تعالى ﴿ويأخذ الصدقات﴾ (التوبة : ١٠٤)
أي يقبلها قاله الزمخشريّ وقوله تعالى :﴿إنهم كانوا قبل ذلك محسنين﴾ إشارة إلى أنهم أخذوها بثمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة وإما لإيتاء الله تعالى وإمّا ليوم الدين والإحسان يكون في معاملة الخالق والخلائق وقيل : هو قول لا إله إلا الله ولهذا قيل. في معنى كلمة التقوى : إنها لا إله إلا الله وفي قوله تعالى :﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله﴾ (فصلت : ٣٣)
وقوله تعالى :﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ (الرحمن : ٦٠)
هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.
ثم فسر إحسانهم معبراً عنه بما هو في غاية المبالغة بقوله تعالى :