﴿إذ﴾ أي حديثهم حين ﴿دخلوا عليه﴾ أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند الدال والباقون بالإدغام.
تنبيه : اختلف في العامل في إذ على أربعة أوجه : أحدها : أنه حديث أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه. ثانيها : أنه منصوب بما في ضيف من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر ولذلك استوى فيه الواحد المذكر وغيره، كأنه قيل : الذين أضافهم في وقت دخولهم عليه. ثالثها : أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول : أكرموا إذ دخلوا. رابعها : أنه منصوب بإضمار اذكر، ولا يجوز نصبه بأتاك لاختلاف الزمانين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٠
فإن قيل : إنما أرسلوا إلى قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام ؟
أجيب من وجهين : أحدهما : أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين ولوط من قومه، وعادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له : اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه. ثانيهما : أن إبراهيم عليه السلام كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمّة عظيمة، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على العباد، فقال لهم : بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف من هلك ويكون من صلبه فروع الأنبياء عليهم السلام ﴿فقالوا سلاماً﴾ أي هذا اللفظ. ﴿قال سلامٌ﴾ أي : هذا اللفظ، والمشهور أنّ السلام الأوّل المراد به التحية أن نسلم سلاماً، وقيل : إن سلاماً معناه حسناً ؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو ويأثم، فكأنهم قالوا قولاً حسناً سليماً من الإثم فيكون مفعولاً به، لأنه في معنى القول، وأمّا رفع الثاني فالمشهور أنه التحية فهو مبتدأ وخبره محذوف أي عليكم، وقيل : إنه السلامة، أي : أمري سلام لأني لا أعرفكم، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام والباقون بفتح السين واللام وألف بعدها والمعنى واحد.
وقوله تعالى :﴿قوم منكرون﴾ أي غرباء لا أعرفهم قال ذلك في نفسه كما قاله ابن عباس خبر مبتدأ مقدّر أي هؤلاء. وقيل : إنما أنكر أمرهم ؛ لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان وقال أبو العالية : أنكر إسلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
﴿فراغ﴾ أي ذهب في خفية من ضيفه، فإنّ من آداب المضيف أن يبادر بالقرى حذراً من أن يكفه الضيف أو يصير منتظراً ﴿إلى أهله﴾ أي الذين عندهم بقرة ﴿فجاء بعجل﴾ أي فتى من أولاد البقر لأنه كان عامة ماله البقر ﴿سمين﴾ قد شواه وأنضجه كما قال تعالى في سورة هود ﴿حنيذ﴾ (هود : ٦٦)
أي : مشوي.
﴿فقرّبه إليهم﴾ بأن وضعه بين أيديهم ليأكلوا فلم يأكلوا ﴿قال ألا تأكلون﴾ والهمزة إمّا
٩١
للإنكار عليهم في عدم أكلهم، وإمّا للعرض وإمّا للتحضيض فلم يجيبوا.
﴿فأوجس﴾ أي أضمر في نفسه ﴿منهم خيفة﴾ لما رأى إعراضهم على طعامه لظنه أنهم جاؤوه لشرّ. وقيل : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا بعذاب فلما عرفوا منه ذلك ﴿قالوا﴾ مؤنسين له ﴿لا تخف﴾ وأعلموه أنهم رسل الله ﴿وبشروه بغلام﴾ يأتيه على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السنّ بعد عقمها وهو إسحاق عليه السلام ﴿عليم﴾ أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه، فإنّ جميع الأنبياء بعده من ذريته إلا نبينا محمداً ﷺ فإنه من ذرية إسماعيل عليه السلام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٠
تنبيه : ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليم المضيف على الضيف ولقاءه بالوجه الحسن والمبالغة في الإكرام بقوله سلام وهو آكد وسلامهم بالمصدر في قوله سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلام عليكم، لأنّ الامتناع من الطعام يدل على العداوة، والغدر لا يليق بالأنبياء فقال : سلام أي امرئ مسالمة ثم فيها من آداب المضيف تعجيل الضيافة فإنّ الفاء في قوله فراغ تدل على التعقيب وإخفائها.
لأن الروغان يقتضي الإخفاء وغيبة المضيف عن الضيف ليستريح ويأتي بما يمنعه الحياء منه ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله سمين، ويقدّم الطعام للضيف في مكانه ولا ينقل الضيف للطعام لقوله قربه إليهم، ويعرض الأكل عليه ولا يأمره لقوله تعالى ﴿قال ألا تأكلون﴾ ولم يقل كلوا وسروره بأكله لا كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه لقوله تعالى :﴿فأوجس منهم خيفة﴾ لعدم أكلهم.
ومن آداب الضيف إذا حضر الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضرّاً به أو يكون ضعيف القوّة عن هضم ذلك الطعام أن لا يقول هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل يأتي بعبارة حسنة ويقول : فيّ مانع من أكل الطعام لأنهم أجابوه بقولهم ﴿لا تخف﴾ ولم يذكروا في الطعام شيئاً ولا أنه يضر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة وبشروه بالأشرف وهو الذكر، حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال ؛ لأنّ العلم أشرف الصفات