ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّه دفعة واحدة لأنه يورث مرضاً لأنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم ثم قالوا نبشرك فإن قيل : قال تعالى في سورة هود ﴿فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم﴾ (هود : ٧٠)
فدل على أنّ إنكاره، حصل بعد تقريب العجل إليهم وههنا قال ﴿فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون﴾ ثم قال ﴿فراغ إلى أهله﴾ بفاء التعقيب وذلك يدل على أنّ تقريب الطعام منهم بعد حصول إنكاره فما وجهه ؟
أجيب بأن يقال لعلهم كانوا مخالفين لصفة الناس في الشكل والهيئة ولذلك قال ﴿قوم منكرون﴾ أي عند كل أحد واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتم بل قال : أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا، ثم لما امتنعوا من الطعام تأكد الإنكار لأنّ إبراهيم تفرّد بمشاهدة إمساكهم فنكرهم فوق الإنكار الأوّل وحكاية الحال في سورة هود أبسط مما ذكره ههنا، فإنه هنا لم يبين المبشر به وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إنّ القوم قوم من، وهناك قال : قوم لوط.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٠
ولما كانا بعيدين عن قبول الولد تسبب عن ذلك قوله تعالى دالاً على أنّ الولد إسحاق مع الدلالة على أنّ خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات.
٩٢
﴿فأقبلت﴾ أي : من سماع هذا الكلام ﴿امرأته﴾ سارة قيل : لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان بل كانت في البيت، فهو كقول القائل : أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه وقوله تعالى :﴿في صرّة﴾ أي : صيحة حال، أي : جاءت صائحة لأنها قد امتلأت عجباً ﴿فصكت﴾ قال ابن عباس : لطمت ﴿وجهها﴾ واختلف في صفته فقيل : هو الضرب باليد مبسوطة وقيل : هو ضرب الوجه بأطراف الأصابع فعل المتعجب، وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئاً، وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض. وقيل : جمعت أصابعها وضربت جبهتها عجباً وذاك من عادة النساء أيضاً إذا أنكرن شيئاً ﴿وقالت﴾ تريد أن تستبين الأمر هل الولد منها أو من غيرها ﴿عجوز﴾ قال القشيري : قيل إنها كانت يومئذ ابنة ثمان وتسعين سنة ومع ذلك ﴿عقيم﴾ فهي حال شبابها لم تكن تقبل الحبل فلم تلد قط.
ولما قالت ذلك قالوا مجيبين لها.
﴿قالوا كذلك﴾ أي مثل ما قلنا من هذه البشرى العظيمة ﴿قال ربك﴾ أي المحسن إليك بتأهيلك لذلك على ما ذكرت من حالك وبتأهيلك من قبل الاتصال بخليله ﷺ ﴿إنه هو﴾ أي : وحده ﴿الحكيم﴾ أي : الذي يضع الأشياء في أحق مواضعها ﴿العليم﴾ المحيط العلم، فهو لذلك لا يعجزه شيء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٠
ثم بين سبحانه وتعالى ما كان من حال إبراهيم وحال الملائكة بعد ذلك بقوله تعالى.
﴿قال﴾ أي إبراهيم عليه السلام مسبباً عما رأى من حالهم وأنّ اجتماع الملائكة على تلك الحالة لم يكن لهذه البشارة فقط ﴿فما خطبكم﴾ أي : خبركم العظيم ﴿أيها المرسلون﴾ أي لأمر عظيم وهذا أيضاً من آداب المضيف إذا بادر الضيف بالخروج قال له : ما هذه العجلة وما شأنك لأنّ في سكوته ما يوهم اشتغاله، ثم إنهم أتوا بما هو من آداب الصديق الذي لا يسرّ عن الصديق شيئاً وكان ذلك بإذن الله تعالى لهم في إطلاع إبراهيم عليه السلام على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق عليه السلام.
فإن قيل : فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولم لا قال : ما هذا الاستعجال وما خطبكم المعجل لكم. أجيب : بأنه لما أوجس منهم خيفة لو خرجوا من غير بشارة وإيناس فلما آنسوه قال : فما خطبكم، أي : بعد هذا الأنس العظيم ما هذا الإ يحاش الأليم.
﴿قالوا﴾ قاطعين بالتأكيد بأنّ مضمون خبرهم حتم لا بدّ منه ولا مدخل للشفاعة فيه ﴿إنا أرسلنا﴾ أي : بإرسال من تعلم ﴿إلى قوم مجرمين﴾ أي : هم في غاية القوّة على ما يحاولونه، وقد صرفوا ما أنعم الله تعالى به عليهم من القوّة في قطع ما يحق وصله، ووصل ما يحق قطعه يعنون قوم لوط.
﴿لنرسل عليهم﴾ أي : من السماء التي فيها ما وعد العباد به وتوعدوا ﴿حجارةً من طين﴾ أي : مهيأ للإحراق والاحتراق.
﴿مسوّمة﴾ أي : معلمة بعلامة العذاب المخصوص عليها اسم من يرمي بها وقوله تعالى :﴿عند ربك﴾ أي : المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها ظرف المسوّمة، أي : معلمة عنده ﴿للمسرفين﴾ أي : المتجاوزين الحدود غير قانعين بما أبيح لهم فالمسرف المتمادي ولو في الصغائر، فهم مجرمون أي : مسرفون. والمجرم قال ابن عباس : هو المشرك لأنّ الشرك أعظم الذنوب.
٩٣
وهنا لطيفة : وهي أنّ الحجارة سوّمت للمصرّ المسرف الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى فلذلك قال ﴿عند ربك للمسرفين﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٣