ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا ﴿إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين﴾ واللام في المسرفين لتعريف العهد أي لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوّمة، وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يسبقهم به أحد من العالمين وفي هذا دليل على رجم اللائط، والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم إذ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما أهلك النمروذ بالبعوض، وكما أهلك فرعون بالقمل والجراد بل بالريح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أمر خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته.
تنبيه : قوله تعالى :﴿من طين﴾ أي ليس من البرد والفاعل لذلك هو الله تعالى لا كما تقول الحكماء فإنهم يقولون : إنّ البرد يسمى حجارة فقوله تعالى :﴿من طين﴾ يدفع ذلك التوهم قال الرازي : إن بعض من يدّعي العقل يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوّرات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة قالوا : وسبب ذلك أنّ الإعصار تصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق ذلك إلى هواء ندي فيصير ذلك طيناً رطباً، والرطب إذا نزل وتفرّق استدار، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته يقطر كرات مدوّرات كاللآلىء الكبار، ثم في النزول إن اتفق أن تضربه النيران التي في الجوّ جعلته حجارة كالآجر المطبوخ فينزل فيصيب من هيأ الله تعالى هلاكه، وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدري به فلهذا قال :﴿من طين﴾، لأنّ ما لا يكون من طين كالحجر الذي يكون في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف، لأنّ ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع لحادث آخر لزم التسلسل ولا بدّ من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل ذلك وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه، وما لا يصل العقل إليه لا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أنّ نزول حجارة الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها.
ولما أراد الله تعالى أن يهلك المجرمين ميز المؤمنين بقوله تعالى :
﴿فأخرجنا﴾ أي : بما لنا من العظمة بعد أن ذهبت رسلنا إليهم ووقعت بينهم وبين لوط عليه السلام محاورات معروفة لم يدع الحال هنا إلى ذكرها ﴿من كان فيها﴾ أي : قرى قوم لوط ﴿من المؤمنين﴾ أي : المصدّقين بقلوبهم لأنا لا نسوّيهم بالمجرمين فخلصناهم من العذاب على قلتهم وضعفهم وقوّة المخالفين وكثرتهم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٣
فما وجدنا فيها﴾
أي : تلك القرى، أسند الأمر إليه تشريفاً لرسله وإعلاماً بأنّ فعلهم فعله تعالى ﴿غير بيت﴾ أي : واحد وهو بيت ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وقيل : كانت عدّة الناجين منهم ثلاثة عشر ﴿من المسلمين﴾ أي : العريقين في إسلام الظاهر والباطن لله تعالى من غير اعتراض أصلاً، وهم إبراهيم وآله عليهم السلام وإنهم أوّل من وجد منهم الإسلام الأتم وتسموا به كما مرّ في سورة البقرة، وسموا به أتباعهم فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الإنقياد قال البغوي : وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم يعني لما بينهما من التلازم وإن اختلف المفهومان، وقال الأصفهاني : وقيل :
٩٤
كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر وقيل : هم لوط وابنتاه وصفوا بالإيمان والإسلام أي هم مصدّقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات.
تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون ومثاله : أنّ العالم كالبدن، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم والواردة عليه الضارة، ثم إنّ البدن إذا خلا عن النافع وفيه الضار هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما، وإن وجدا فيه معاً فالحكم للأغلب، وإطلاق الخاص على العام لا مانع منه لأنّ المسلم أعم من المؤمن، فإذا سمى المؤمن مسلماً لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتاً من المسلمين، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.


الصفحة التالية
Icon