﴿وتركنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿فيها﴾ أي تلك القرى بما أوقعنا بها من العذاب ﴿آية﴾ أي علامة عبرة على هلاكهم كالحجارة أو الماء المنتن، فإنا قلعنا قراهم كلها وصعدت في الجوّ كالغمام إلى عنان السماء ولم يشعر أحد من أهلها بشيء من ذلك ثم قلبت واتبعت بالحجارة ثم خسف بها وغمرت بالماء الذي لا يشبهه شيء من مياه الأرض، كما أنّ جنايتهم لم تكن تشبه جناية أحد ممن تقدّمهم من أهل الأرض ﴿للذين يخافون العذاب الأليم﴾ أي : أن يحل بهم كما حل بهذه القرى في الدنيا من رفع الملائكة لهم في الهواء الذاري إلى عنان السماء وقلبهم وإتباعهم الحجارة المحرقة، وغمرهم بالماء المناسب لفعلهم بنتنه وعدم نفعه، وما ادّخر لهم في الآخرة أعظم وخص الذين يخافون بالذكر لأنهم المعتبرون بها. وقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٣
عطف على قوله تعالى :﴿فيها﴾ بإعادة الجار، لأنّ المعطوف عليه ضمير مجرور فيتعلق بتركنا من حيث المعنى ويكون التقدير وتركنا في قصة موسى آية ﴿إذ أرسلناه﴾ أي : بمالنا من العظمة ﴿إلى فرعون بسلطان مبين﴾ أي بحجة واضحة وهي معجزاته الظاهرة كاليد والعصا ومع ذلك لم ينتفع بها، ولذلك سبب عنها وعقب بها قوله تعالى :
﴿فتولى﴾ أي : كلف نفسه الإعراض عنها بعدما دعاه علمها إلى الإقبال إليها وأشار إلى قواه بقوله تعالى :﴿بركنه﴾ أي : بسبب ما يركن إليه من القوّة في نفسه وبأعوانه وجنوده، لأنهم له كالركن وقيل : بجميع بدنه كناية عن المبالغة في الإعراض ﴿وقال﴾ معلماً بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر ﴿ساحر﴾ ثم ناقض
٩٥
كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله ﴿أو مجنون﴾ أي : لاجترائه علىّ مع مالي من عظيم الملك بمثل هذا الذي يدعو إليه
تنبيه : أو هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشك نزل نفسه مع أنه يعرفه نبياً حقاً منزلة الشاك في أمره تمويهاً على قومه، وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو قال : لأنه قد قالهما قال تعالى :﴿إنّ هذا لساحر عليم﴾ (الأعراف : ١٠٩)
وقال في موضع آخر ﴿إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون﴾ (الشعراء : ٢٧)
وردّ الناس عليه هذا وقالوا : لا ضرورة تدعو إلى ذلك وأمّا الآيتان فلا تدلان على أنه قالهما معاً في آن واحد، وإنما يفيدان أنه قالهما أعمّ من أن يكونا معاً، أو هذه في وقت وهذه في آخر.
ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء قال تعالى محذراً للأعداء.
﴿فأخذناه﴾ أي : أخذ غضب وقهر بعظمتنا وقوله تعالى :﴿وجنوده﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول أخذناه وهو الظاهر وأن يكون مفعولاً معه.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٥
فنبذناهم﴾ أي : طرحناهم طرح مستهين بهم كما تطرح الحصيات ﴿في اليمّ﴾ أي : البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطنا الريح عليه فغرقته لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ونشفت أرضه وأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا ﴿وهو﴾ أي والحال أنّ فرعون ﴿مليم﴾ أي آت بما يلام عليه من تكذيب الرسول ودعوى الربوبية وغير ذلك.
ثم ذكر تعالى قصصاً أخر تسلية لنبينا ﷺ إحداها : قوله تعالى :
﴿وفي عادٍ﴾ أي : إهلاكهم وهم قوم هود عليه السلام آية عظيمة ﴿إذ﴾ أي حين ﴿أرسلنا﴾ بعظمتنا ﴿عليهم الريح﴾ فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تدر الرمل وترمي بالحجارة كما مرّت الإشارة إليه على كيفية لا تطاق ﴿العقيم﴾ أي التي لا خير فيها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور.
ثم بين عقمها وإعقامها بقوله تعالى :
﴿ما تذر﴾ أي : تترك على حالة رديئة، وأغرق في النفي فقال تعالى :﴿من شيء أتت عليه﴾ أي : إتياناً أراد مرسلها إهلاكه بها ﴿إلا جعلته كالرميم﴾ أي : الشيء البالي الذي دهكته الأيام والليالي إلى حالة الدمار وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض وديس، قاله ابن جرير.
فإن قيل : الجبال والصخور وغير ذلك أتت عليهم وما جعلتهم كالرميم أجيب بأنّ المراد أتت عليه قاصدة له وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم، لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم.
ثانيها : قوله تعالى :﴿وفي ثمود﴾ أي إهلاكهم وهم قوم صالح عليه السلام آية عظيمة ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قيل لهم﴾ أي ممن لا يخلف الميعاد، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها ﴿تمتعوا﴾ أي بلبن الناقة وغيره مما مكناهم فيه من الزروع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور على الوجه الذي أمرناكم به، ولا تطغوا ﴿حتى حين﴾ أي وقت ضربناه لآجالكم.
﴿فعتوا﴾ أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتوّ وهو التكبر والإباء ﴿عن أمر ربهم﴾ أي : مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا ناقته وأرادوا قتل نبيه صالح عليه السلام ﴿فأخذتهم﴾ أي : بسبب عتوّهم أخذ قهر وعذاب ﴿الصاعقة﴾ أي : الصيحة العظيمة التي حملتها الريح
٩٦