فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق، وقرأ الكسائي بإسكان العين ولا ألف قبلها، والباقون بكسر العين وقبلها ألف وقوله تعالى :﴿وهم ينظرون﴾ دال على أنها كانت في غمام وكان فيها نار، ويجوز مع كونه من النظر أن يكون أيضاً من الانتظار فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وجعل في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه في اليوم الرابع. وقال بعض المفسرين : المراد منه هو ما أمهلهم الله تعالى بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام بقوله تعالى :﴿تمتعوا في داركم ثلاثة أيام﴾ (هود : ٦٥)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٥
وكان في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتحمر وتصفر وتسودّ قال الرازي : وهذا ضعيف، لأنّ قوله تعالى ﴿فعتوا عن أمر ربهم﴾ بحرف الفاء دليل على أنّ العتوّ كان بعد قوله تعالى :﴿تمتعوا﴾ فإذاً الظاهر أنّ المراد هو ما قدّر الله تعالى للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدّة الأجل انتهى. ولحسن هذا فسرت الآية به.
﴿فما﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنهم ما ﴿استطاعوا﴾ أي : تمكنوا، وأكد النفي بقوله تعالى :﴿من قيام﴾ أي : فما قاموا بعد نزول العذاب وما قدروا على نهوض، قال قتادة : لم ينهضوا من تلك الصرعة كقوله تعالى :﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾ (الأعراف : ٧٨)
وقيل : هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ﴿وما كانوا﴾ أي : كوناً ما ﴿منتصرين﴾ أي : لم يكن فيهم أهلية الانتصار بوجه لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة، لأن تهيؤهم لذلك سقط بكل اعتبار.
ثالثها : قوله تعالى :﴿وقوم نوح﴾ بالجرّ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي عطف على ثمود أي وفي إهلاكهم بماء السماء والأرض آية، وبالنصب وهي قراءة الباقين أي وأهلكنا قوم نوح ﴿من قبل﴾ أي : من قبل إهلاك هؤلاء المذكورين ثم علل إهلاكهم بقوله تعالى :﴿إنهم كانوا﴾ خلقاً وطبعاً لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم ﴿قوما﴾ أي : أقوياء ﴿فاسقين﴾ أي : غريقين في الخروج عن حظيرة الدين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٥
ثم ذكر ما يدلّ على تمام القدرة على البعث بقوله تعالى :
﴿والسماء بنيناها﴾ أي : بمالنا من العظمة ﴿بأيدٍ﴾ أي : بقوّة وشدّة عظيمة لا يقدر قدرها. فائدة : رسمت بأيد بيائين بعد الألف ﴿وإنا﴾ على عظمتنا بعد ذلك ﴿لموسعون﴾ أي : أغنياء وقادرون ذووا سعة لا تتناهى، ولذلك أوسعنا بقدر جرمها وما فيها من الرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا تصح معها الشركة أصلاً فلسنا كمن تعرفون من الملوك، لأنهم إذا فعلوا شيئاً لم يقدروا على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى ما ترون في جنبه ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد، وعن الحسن لموسعون الرزق بالمطر وقيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة.
﴿والأرض فرشناها﴾ أي : بسطناها ومهدناها بما لنا من العظمة، فصارت ممهدة جديرة بأن تستقرّ عليها الأشياء، وهي آية على تمهيد أرض الجنة وسقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها ﴿فنعم﴾ أي : فتسبب عن ذلك أن يقال : في وصفنا نعم ﴿الماهدون﴾ والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي : نحن لكمال قدرتنا فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا واختيارنا وتقديرنا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئاً علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إفنائه
٩٧
ولا يكون شيء منه إلا بتقديرنا، وذلك تذكير بالجنة والنار فما فيها من خير فهو آية على الجنة، وما فيها من شر فهو آية على النار وقوله تعالى :
﴿ومن كل شيء خلقنا﴾ يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا من كل شيء ﴿زوجين﴾ وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من زوجين، لأنه في الأصل صفة له إذ التقدير خلقنا زوجين كائنين من كل شيء، أي صنفين كل منهما يزاوج الآخر من وجه وإن خالفه من آخر ولا يتم نفع أحدهما إلا بالآخر من الحيوان والنبات وغيرهما، ويدخل فيه الأضداد من الغنى والفقر والحسن والقبح والحياة والموت والظلام والنور والليل والنهار والصحة والسقم والبر والبحر والسهل والجبل والشمس والقمر والحر والبرد اللذين هما من نفس جهنم آية بينة عليها وبناؤها على الاعتدال في بعض الأحوال آية على الجنة مذكرة بها مشوّقة إليها، والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر قال الحسن : كل اثنين منها زوج والله سبحانه وتعالى فرد لا مثل له ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي : فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعلموا أنّ خالق هذه الأشياء واحد لا شريك له لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح، وقرأ حفص والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٧


الصفحة التالية
Icon