وعن علي أنه سأل يهودياً أين موضع النار في كتابكم قال : في البحر قال علي : ما أراه إلا صادقاً لقوله تعالى ﴿والبحر المسجور﴾، وعن ابن عمر أنّ رسول الله ﷺ قال :"لا يركبن البحر رجل إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً فإنّ تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً" وقال الربيع بن أنس المختلط العذب بالملح. وروى الضحاك عن المنزل بن سمرة عن علي أنه قال : البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم وهذا قول مقاتل. فإن قيل : ما الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء ؟
أجيب : بأنّ هذه الأماكن الثلاثة وهي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله تعالى، أمّا الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام وخاطب الله سبحانه وتعالى هناك، وأمّا البيت المعمور فانتقل إليه محمد ﷺ وقال لربه سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأمّا البحر المسجور فانتقل إليه يونس عليه السلام ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها. وأمّا ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم مع الله تعالى في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب.
تنبيه : أقسم الله تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى :﴿والذاريات﴾ (الذاريات : ١)
و﴿المرسلات﴾ (المرسلات : ١)
و﴿النازعات﴾ (النازعات : ١)
وفي بعضها بإفراد كقوله تعالى ﴿والطور﴾ ولم يقل والأطوار والأبحار قال الرازي : والحكمة فيه أنّ في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحرّكات
١٠٤
والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدلة بأفرادها مستمرّة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال ﴿والذاريات﴾ إشارة إلى النوع المستمرّ لا إلى الفرد المعين المستقر، وأمّا الجبل فهو ثابت غير متغير عادة فالواحد من الجبال دائم زماناً ودهراً فأقسم في ذاك بالواحد، وكذلك في قوله تعالى ﴿والنجم﴾ (النجم : ١)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٣
ولو قال والريح لما علم المقسم به وفي الطور علم.
وقوله تعالى :﴿إنّ عذاب ربك﴾ أي : الذي تولى تربيتك ﴿لواقع﴾ أي : ثابت نازل بمستحقه جواب القسم كما مرّ.
﴿ما له من دافع﴾ أي : مانع لأنه لا شريك لموقعه لما دلت عليه هذه الأقسام من كمال القدرة وجلال الحكمة قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله ﷺ في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله تعالى :﴿إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع﴾ فكأنما صدع قلبي حين سمعته ولم أكن أسلمت يومئذ فأسلمت خوفاً من العذاب وما كنت أظنّ أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.
ثم بين تعالى أنه متى يقع بقوله تعالى ﴿يوم تمور السماء﴾ أي : تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتدور دوران الرحى ويموج بعضها في بعض وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض. قال البغوي : والمور يجمع هذه المعاني وهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردّد والدوران والاضطراب قال الرازي : وقيل تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل ﴿موراً﴾ أي : اضطراباً شديداً.
﴿وتسير الجبال﴾ أي : تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب وحقق معناه بقوله تعالى ﴿سيراً﴾ فتصير هباء منثوراً وتكون الأرض قاعاً صفصفاً.
ثم بيّن من يقع عليه العذاب بقوله تعالى ﴿فويل﴾ أي : شدة عذاب ﴿يومئذ﴾ أي : يوم إذ يكون ما تقدّم ذكره ﴿للمكذبين﴾ أي : الغريقين في التكذيب للرسل.
﴿الذين هم﴾ من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم ﴿في خوض﴾ أي : أقوالهم وأفعالهم أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله ﴿يلعبون﴾ فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل الخوض واللعب فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه فلا يؤسس على بيان أو حجة.
فإن قيل : أهل الكبائر لا يكذبون فمقتضى ذلك أنهم لا يعذبون. أجيب بأنّ ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر لقوله تعالى ﴿كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا﴾ (الملك : ٨ ـ ٩)
فالمؤمن لا يلقى فيها إلقاء هوان وإنما يدخل فيها للتطهير إدخالاً مع نوع إكرام فالويل إنما هو للمكذبين.
وقوله تعالى :﴿يوم يدعون﴾ بدل من يوم تمور السماء أو من يومئذ قبله تقديره : فويل يومئذ يوم يدعون، أي : يدفعون دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة من كل من يقيمه الله تعالى لذلك ذاهبين ومتهيئين ﴿إلى نار جهنم﴾ وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة وأكد المعنى وحققه بقوله تعالى ﴿دعّاً﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٣