قال البغوي : وذلك أنّ خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم مقولاً لهم تبكيتاً وتوبيخاً ﴿هذه النار﴾
١٠٥
أي : الجسم المحرق المفسد لما اتى عليه الشاغل عن اللعب ﴿التي كنتم بها﴾ في الدنيا ﴿تكذبون﴾ على التجدّد والاستمرار.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٣
خبر مقدّم وقوله تعالى ﴿هذا﴾ هو المبتدأ وقدّم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً ﷺ إلى السحر وأنه يغطي الأبصار بالسحر وأنّ انشقاق القمر وأمثاله سحر فوبخوا به، وقيل لهم :﴿أفسحر هذا﴾ أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون فيه ﴿أم أنتم﴾ في منام أو نحوه ﴿لا تبصرون﴾ بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا قلوبنا في أكنة، ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمنذر ﴿بيننا وبينك حجاب فاعمل أننا عاملون﴾ (فصلت : ٥)
﴿اصلوها﴾ أي : إذا لم يمكنكم إنكارها وتحققتم أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فقاسوا شدّتها ﴿فاصبروا﴾ على هذا الذي لا طاقة لكم به ﴿أو لا تصبروا﴾ فإنه لا محيص لكم عنه ﴿سواء عليكم﴾ أي : الصبر والجزع فإنّ صبركم لا ينفعكم. وقوله تعالى :﴿إنما تجزون ما كنتم تعملون﴾ تعليل للاستواء فإنه لماكان الجزاء واجباً كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع.
ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب أتبعه ما لأضدادهم من الثواب فقال تعالى ﴿إن المتقين﴾ أي : الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة ﴿في جنات﴾ أي : بساتين أية بساتين دائماً في الدنيا حكماً وفي الآخرة حقيقة ﴿ونعيم﴾ أيّ : نعيم في العاجل يعني بما لهم فيه من الأنس وفي الآجل بالفعل.
وزاد في تحقيق التنعم بقوله تعالى ﴿فاكهين﴾ أي : متلذذين معجبين ناعمين ﴿بما آتاهم﴾ أي : أعطاهم ﴿ربهم﴾ الذي تولى تربيتهم بعملهم بالطاعات إلى أن أوصلهم إلى هذا النعيم ﴿ووقاهم﴾ أي : قبل ذلك ﴿ربهم﴾ أي : المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات ﴿عذاب الجحيم﴾ أي النار الشديدة التوقد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٦
ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في غنى عظيم قال مترجماً لذلك على تقدير القول ﴿كلوا﴾ أي : أكلاً هنيئاً ﴿واشربوا﴾ أي : شرباً ﴿هنيئاً﴾ وهو الذي لا تنغيص فيه فكل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخم والسقم وغيرهما ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كنتم﴾ أي : كوناً راسخاً ﴿تعملون﴾ أي : مجددين العمل على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم.
ثم نبه على أنهم مع هذا النعيم مخدومون بقوله تعالى ﴿متكئين﴾ أي : مستندين استناد راحة لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة ﴿على سرر مصفوفة﴾ أي : منصوبة واحداً إلى جنب واحد مستوية كأنها الستور على أحسن نظام وأبدعه.
ثم نبه على تمام سرورهم بالتمتع بالنساء بقوله تعالى ﴿وزوجناهم﴾ أي : تزويجاً يليق بما لنا من العظمة أي صيرناهم ممتعين ﴿بحور﴾ أي : نساؤهنّ في شدّة بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية حسن لا توصف ﴿عين﴾ أي : واسعات الأعين في رونق وحسن.
تنبيه : اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعم على الترتيب فأوّل ما يكون المسكن وهو الجنان، ثم الأكل والشرب ثم الفرش والبسط ثم الأزواج فهذه أمور أربعة ذكرها الله تعالى على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله فقوله :﴿جنات﴾ إشارة إلى المسكن وقال ﴿فاكهين﴾ إشارة إلى عدم التنغيص وعلوّ المرتبة لكونه مما آتاهم الله. وقال :﴿كلوا واشربوا هنيئاً﴾ أي
١٠٦
مأمون العاقبة وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنويعهما وكثرتهما. وقوله تعالى ﴿بما كنتم تعملون﴾ إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقكم وأدخلتكم الجنة بفضلي فلا منة لي عليكم اليوم وإنما منتي عليكم كانت في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى ﴿بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان﴾ (الحجرات : ١٧)
وأمّا اليوم فلا منة عليكم لأنّ هذا إنجاز الوعد.


الصفحة التالية
Icon