وقوله تعالى :﴿والذين آمنوا﴾ أي : أقرّوا بالإيمان وإن لم يبالغوا في الأعمال الصالحة مبتدأ وقرأ أبو عمرو ﴿وأتبعناهم﴾ أي بما لنا من الفضل الناشىء عن العظمة بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية وسكون العين وبعد العين نون مفتوحة بعدها ألف والباقون بهمزة وصل محذوفة وتشديد التاء الفوقية وفتح العين وبعدها تاء فوقية ساكنة وهو معطوف على آمنوا ﴿ذرياتهم﴾ أي : الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم، فإنّ الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه ﴿بإيمان﴾ أي بسبب إيمان حاصل منهم ولو كان في أدنى درجات الإيمان ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا وذلك شرط اتباعهم الذريات قال البقاعي : ويجوز أن يراد وهو أقرب بسبب إيمان الذرّية حقيقة إن كانوا كباراً أو حكماً إن كانوا صغاراً، ثم أخبر عن الموصول المبتدأ بقوله تعالى :﴿ألحقنا بهم﴾ تفضلاً منا عليهم ﴿ذريتهم﴾ وإن لم يكن للذرّية أعمال لأنه :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٦
لعين تجازى ألف عين وتكرم
والذريات هنا تصدق على الآباء وعلى الأبناء وإنّ المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابناً كان أو أباً وهو منقول عن ابن عباس وغيره، ويلحق بالذرّية من النسب الذرّية بالسبب وهو المحبة فإن كان معها أخذ لعلم أو عمل كانت أجدر فتكون ذرية الإفادة كذرّية الولادة وذلك لقوله ﷺ "المرء مع من أحبّ" في جواب من سأل عمن يحب القوم ولما يلحق بهم، وقرأ ﴿ذرّيتهم بإيمان﴾ و﴿ألحقنا بهم ذرياتهم﴾ نافع بالقصر في الأولى والجمع في الثانية مع كسر التاء، وقرأ ابن كثير والكوفيون بالقصر فيهما مع ضم التاء، وقرأ أبو عمرو بالجمع فيهما مع كسر التاء، وقرأ ابن عامر بالجمع فيهما إلا أنه يرفع التاء في الأولى ويكسرها في الثانية.
فإن قيل : قوله تعالى ﴿أتبعناهم ذريّاتهم﴾ يفيد فائدة قوله تعالى ﴿ألحقنا بهم ذرياتهم﴾ أجيب بأنّ قوله تعالى ﴿ألحقنا بهم﴾ أي في الدرجات والإتباع إنما هو في حكم الإيمان وإن لم يبلغوه كما مرّ ثم أشار إلى عدم نقصان المتبوع بقوله تعالى ﴿وما ألتناهم﴾ أي : ما نقصنا المتبوعين ﴿من عملهم﴾ وأكد النفي بقوله تعالى ﴿من شيء﴾ أي : بسبب هذا الإلحاق.
ولما بين تعالى اتباع الأدنى للأعلى في الخير، بين أنّ الأدنى لا يتبع الأعلى في الشرّ بقوله تعالى :﴿كل امرئ﴾ من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم ﴿بما كسب﴾ أي : عمل من خير أو شرّ ﴿رهين﴾ أي : مرهون يؤخذ بالشر ويجازى بالخير وقال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك
١٠٧
رهين في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى ﴿كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين﴾ (المدثر : ٣٨ ـ ٣٩)
وقال الواحدي : هذا يعود إلى ذكر أهل النار وهو قول مجاهد أيضاً قال الرازي : وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى كل امرئ راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً وإن أساء ففي النار مخلداً ؛ لأنّ في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان، فإنّ العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإنّ الله تعالى يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عمله.
﴿وأمددناهم﴾ أي : الذين آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة ﴿بفاكهة﴾ وقتاً بعد وقت زيادة على ما تقدم، ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما نعرفه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكهاً ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال تعالى :﴿ولحم مما يشتهون﴾ من أنواع اللحمان والمعنى : زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهة واللحم، والمشروب الكأس وفي هذا لطيفة : وهي أنه تعالى لما قال ﴿وما ألتناهم من عملهم من شيء﴾ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوي فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة والإمداد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٦


الصفحة التالية
Icon