وقوله تعالى :﴿يتنازعون﴾ في موضع نصب على الحال من مفعول أمددناهم ويجوز أن يكون مستأنفاً وقوله تعالى :﴿فيها﴾ يجوز أن يعود الضمير لشربها ويجوز أن يعود للجنة ومعنى يتنازعون يتعاطون، ويحتمل أن يقال : التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة لأنهم يفعلون ذلك هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم ﴿كأساً﴾ أي : خمراً من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها ﴿لالغو﴾ أي : لا سقط حديث وهو ما لا ينفع من الكلام ولا يضر ﴿فيها﴾ أي : في تنازعها ولا بسببها لأنها لا تذهب بعقولهم فلا يتكلمون إلا بالحسن الجميل بخلاف المتنادمين في الدنيا على الشراب بسفههم وعربدتهم ﴿ولا تأثيم﴾ أي : لا يكون منهم ما يؤثمهم وقال الزجاج : لا يجري منهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر قال الرازي : ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السكر وقيل : لا يأثمون في شربها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لغو وتأثيم من غير تنوين، والباقون بالرفع فيهما مع التنوين.
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ويعظم أنسها إلا بخدم وسقاة قال تعالى :﴿ويطوف عليهم﴾ بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف ﴿غلمان﴾ أي : أرقاء، ولما كان أحب مال إلى الإنسان ما يختص به قال تعالى :﴿لهم﴾ ولم يقل تعالى غلمانهم لئلا يظنّ أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحداً في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً، وأفاد التنكير أنّ كل من دخل الجنة وجد له خدم لم يعرفهم قبل ذلك ﴿كأنهم﴾ في بياضهم وشدّة صفائهم ﴿لؤلؤ مكنون﴾ أي : مخزون مصون لم تمسه الأيدي. قال سعيد بن جبير يعني في الصدف لأنه فيها أحسن منه في غيره أو مصون في الجنة لم تغيره العوارض.
قال عبد الله بن عمر : ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه، هذه صفة الخادم وأمّا المخدوم فروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم، قال "فضل المخدوم على الخادم
١٠٨
كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وروي أنه ﷺ قال "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامة فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك" وقرأ السوسي وشعبة لولو بالبدل والباقون بالهمز.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٦
﴿وأقبل بعضهم﴾ لما ازدهاهم من السرور واللذة والحبور ﴿على بعض يتساءلون﴾ أي : يسأل بعضهم بعضاً في الجنة قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا.
﴿قالوا﴾ أي : قال كل منهم ﴿إنا كنا قبل﴾ أي : في دار العمل ﴿في أهلنا﴾ على ما لهم من العدد والعُدَد والسعة، ولنا بهم من جوانب اللذة والدواعي إلى اللعب ﴿مشفقين﴾ أي : عريقين في الخوف من الله تعالى لا يلهينا عنه شيء مع لزومنا لما نقدر عليه من طاعته لعلمنا بأنا لا نقدره لما له من العظمة والجلال والكبرياء والكمال حق قدره، والمعنى : أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه تلذذاً واعترافاً بالنعمة فيقولون ذلك خشية الله تعالى أي كنا نخاف الله تعالى.
﴿فمنّ الله﴾ الذي له جميع الكمال بسبب إشفاقنا منه ﴿علينا﴾ بالرحمة والتوفيق ﴿ووقانا﴾ أي : وجنبنا بما سترنا به ﴿عذاب السموم﴾ قال الكلبيّ عذاب النار، وقال الحسن : السموم من أسماء جهنم، والسموم في الأصل الريح الحارة التي تتخلل المسام والجمع سمائم. يقال : سمّ يومنا أي اشتدّ حره، وقال ثعلب : السموم شدة الحرّ أو شدة البرد في النهار، وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار.
﴿إنا كنا﴾ أي : بما طبعنا عليه وهيئنا له ﴿من قبل﴾ أي : في الدنيا ﴿ندعوه﴾ أي : نسأله ونعبده بالفعل وأمّا خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكون، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأنّ أنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره فهو مما يتعجب منه غاية التعجب بقولهم :﴿إنه هو﴾ أي : وحده، وقرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة والباقون بكسرها ﴿البرّ﴾ أي : الواسع الجود
١٠٩
الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما برّه بالنعمة وربما برّه بالبؤس فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له البرّ في العقبى فعلى المؤمن أن لا يتهم ربه في شيء من قضائه ﴿الرحيم﴾ أي : المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٩
ولما بين تعالى أنّ في الوجود قوماً يخافون الله تعالى ويشفقون في أهليهم والنبيّ ﷺ مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى :﴿فذكر بالقرآن من يخاف وعيد﴾ (ق : ٤٥)