﴿إن﴾ أي : ما ﴿يتبعون﴾ أي : في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة وأنها تشفع لهم أو تقربهم إلى الله تعالى ﴿إلا الظن﴾ أي : وهو غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم والظن ترجيح أحد الجائزين على زعم الظان. ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال تعالى :﴿وما تهوى الأنفس﴾ أي : تشتهي وهي لما لها من النقص لا تشتهي أبداً إلا ما يهوى بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما يسوق إليها العقل.
قال القشيري : فأما الظن الجميل بالله تعالى فليس من هذا الباب، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل إنما الظن المعلول في الله تعالى وأحكامه وصفاته ا. ه. ولهذا كان كثير من الفقه ظنياً وقال ﷺ حكاية عن ربه "أنا عند ظن عبدي بي".
﴿ولقد جاءهم﴾ أي : العجب أنهم يقولون ذلك والحال أنهم قد جاءهم ﴿من ربهم﴾ المحسن إليهم ﴿الهدى﴾ على لسان النبيّ ﷺ بالبرهان القاطع أنها ليست بآلهة، وأنّ العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار فلم يرجعوا عما هم عليه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بكسرهما والباقون بكسر الهاء وضم الميم.
١٢٥
﴿أم للإنسان﴾ أي : كل إنسان منهم ﴿ما تمنى﴾ أي : من اتباع ما يشتهي من جاه ومال وطول عمر ورفاهة عيش، ومن أن الأصنام تشفع له ليس الأمر كذلك.
﴿فللّه﴾ أي : الملك الأعظم وحده ﴿الآخرة﴾ فهو لا يعطي ما فيها إلا لمن تبع هداه وترك هواه ﴿والأولى﴾ أي : الدنيا فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلاً كما هو مشاهد ولكنه يعطي منها ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه سبحانه في شيء منها.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٣
وكم من ملك﴾ أي : كثير من الملائكة أي ممن يعبدهم هؤلاء الكفار، ودلّ على زيادة قوّتهم بشرف مسكنهم، وهو قوله تعالى :﴿في السموات﴾ أي : وهم في الكرامة والزلفى ﴿لا تغني شفاعتهم﴾ أي : عن أحد من الناس ﴿شيئاً﴾ ثم قصر الأمر عليه ورده بحذافيره إليه بقوله تعالى :﴿إلا من بعد أن يأذن﴾ أي : يمكن ويريد ﴿الله﴾ أي الملك الذي لا أمر أصلاً لأحد معه ﴿لمن يشاء﴾ من عباده من الملائكة أو من الناس أن يشفع ﴿ويرضى﴾ أي : ويراه أهلاً لذلك فكيف تعبد الأصنام مع حقارتها لتشفع لهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٣
﴿إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي : لا يصدقون ولا يقرّون بالبعث وغيره من أحوال يوم القيامة ﴿ليسمون الملائكة﴾ أي : كل واحد منهم ﴿تسمية الأنثى﴾ بأن سموه بنتاً، وذلك أنهم كانوا يقولون : الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال : سجدت الملائكة فقالوا بنات الله فسموهم تسمية الإناث.
فإن قيل : كيف يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب : بأنهم ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله تعالى عنهم :﴿وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى﴾ (فصلت : ٥٠)
وبأنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل فإن قيل : كيف قال : تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث أجيب بأن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي.
﴿وما﴾ أي : والحال أنهم ما ﴿لهم به﴾ أي : بما يقولون، وقيل : الضمير يعود إلى ما تقدّم من عدم قبول الشفاعة وقيل : يعود إلى الله تعالى أي ما لهم بالله تعالى ﴿من علم﴾ ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله تعالى :﴿إن﴾ أي : ما ﴿يتبعون﴾ أي بغاية ما يكون من شهوة النفس في ذلك وغيره ﴿إلا الظن﴾ أي الذي يتخيلونه ﴿وإن﴾ أي : والحال أن ﴿الظن﴾ أي : مطلقاً في هذا وفي غيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار ﴿لا يغني﴾ أي إغناء مبتدأ ﴿من الحق﴾ أي : الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله والظن إنما يعتبر في العمليات لا في العلميات ولا سيما الأصولية ﴿شيئاً﴾ أي : من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدّي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإنّ المقصود فيها تحقيق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإنّ المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه وهو ردّه إلى الأصول المستنبط منها، لعجز الإنسان عن القطع في جميع الفروع تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله تعالى ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوّته ليكشف له عن الحقائق.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٦
ولما أن أصروا على الهوى بعد مجيء الهدى سبب عن ذلك قوله تعالى :﴿فأعرض﴾ أي :
١٢٦