﴿فلا تزكوا﴾ أي : تمدحوا بالزكاة وهي البركة والطهارة عن الدناءة ﴿أنفسكم﴾ أي : حقيقة بأن يثني الإنسان على نفسه فإنّ تزكيته لنفسه قال القشيري : من علامات كونه محجوباً عن الله تعالى أي : من مدح نفسه على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن، أو مجازاً بأن يثنى على غيره من إخوانه وأنه كثيراً ما يثنى بشيء فيظهر خلافه وربما حصل له الأذى بسببه "وإنّ
١٢٩
العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع" الحديث ولذلك علل بقوله تعالى :﴿هو أعلم﴾ أي : منكم ومن جميع الخلق ﴿بمن اتقى﴾ أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليه السلام فمن جاهد نفسه حتى حصل منه تقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتاً.
ولما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحد منهم بسوء فعله فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٦
﴿أفرأيت الذي تولى﴾ أي : عن اتباع الحق والثبات عليه. قال مجاهد وأبو زيد ومقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبيّ ﷺ على دينه فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال : إني خشيت عذاب الله تعالى فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله تعالى ﴿أفرأيت الذي تولى﴾ أي أدبر عن الإيمان.
﴿وأعطى قليلا﴾ أي : من المال المسمى ﴿وأكدى﴾ أي : منع الباقي، مأخوذ من الكدية أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر إذا وصل إليها من الحفر، فأكدى أصله من أكدى الحافر إذا حفر شيئاً فصادف كدية منعته من الحفر ومثله : أجبل إذا صادف جبلاً منعه من الحفر وكديت أصابعه كَلَّت من الحفر ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتممه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخره قال الحطيئة :
*وأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه ** ومن يفعل المعروف في الناس يحمد*
وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل السهمي وذلك أنه ربما يوافق النبيّ ﷺ في بعض الأمور وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله تعالى :﴿وأعطى قليلاً وأكدى﴾ أي لم يؤمن به ومعنى أكدى قطع، وروي أنّ عثمان رضى الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إنّ لي ذنوباً وخطايا وإني أطلب
١٣٠
بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت.
وقوله تعالى :﴿أعنده علم الغيب﴾ أي : ما غاب هو المفعول الثاني لرأيت بمعنى أخبرني، والمفعول الأوّل محذوف اقتصاراً لأعطى ﴿فهو﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنه ﴿يرى﴾ أي : يعلم أنّ صاحبه يتحمل عنه ذنوبه.
﴿أم﴾ أي : بل ﴿لم ينبأ﴾ أي : يخبر أخباراً عظيماً متتابعاً ﴿بما في صحف موسى﴾ أي : التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه، وكذا ما تبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٠
وقدم صحف موسى عليه السلام على قوله :﴿وإبراهيم﴾ أي : وصحفه لأنّ كتاب موسى عليه السلام أعظم كتاب بعد القرآن مع أنه موجود بين الناس تمكن مراجعته، ثم مدح إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى :﴿الذي وفى﴾ أي : أتم ما أمر به من ذلك تبليغ الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة وقيامه بأضيافه وخدمتهم إياه بنفسه، وإنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم وعن الحسن : ما أمر الله تعالى بشيء إلا وفى به وصبر على ما امتحن به، وما قلق شيئاً من قلق وصبر على حر ذبح الولد وعلى حر النار ولم يستعن بمخلوق بل قال لجبريل عليه السلام لما قال له : ألك حاجة قال : أما إليك فلا وقال الضحاك : وفي المناسك، وروي عن النبيّ ﷺ أنه قال "إبراهيم الذي وفى أربع ركعات من أول النهار" وهي صلاة الضحى وروي "ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى كان يقول : إذا أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى تظهرون" وقيل : وفى سهام الإسلام وهي ثلاثون عشرة في التوبة ﴿التائبون...﴾ (التوبة : ١١٢)، وعشرة في الأحزاب ﴿إنّ المسلمين...﴾ (الأحزاب : ٣٥)، وعشرة في المؤمنون، ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ (المؤمنون : ١)
وخص هذين النبيين لأنّ الموعودين من بني إسرائيل اليهود والنصارى يدعون متابعة موسى عليه السلام، ومن العرب يدعون متابعة إبراهيم عليه السلام ومن عداهم لا متمسك لهم ولا سلف في نبوّة محققة ولا شريعة محفوظة، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها.