ثم فسر تعالى الذي في الصحف واستأنف بقوله تعالى :﴿ألا تزر﴾ أي : تأثم وتحمل ﴿وازرة﴾ أي : نفس بلغت مبلغاً تكون فيه حاملة لوزر ﴿وزر أخرى﴾ أي : حملها الثقيل من الإثم، وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، وكان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وامرأته والعبد بسيده، حتى جاءهم إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عز وجل ﴿ألا تزر وازرة وزر أخرى﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٠
ولما نفى أن يضرّه أثم غيره نفي أن ينفعه سعي غيره بقوله تعالى :
﴿وأن ليس للإنسان﴾ كائناً من كان ﴿إلا ما سعى﴾ فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى فيه ودعاء المؤمنين للمؤمن من
١٣١
سعيه بموادته ولو بموافقته لهم في الدين فقط، وكذا الحج عنه والصدقة ونحوها، وأما الولد فواضح في ذلك، وأما ما كان بسبب العلم والصدقة ونحوها فكذلك، وتضحية النبيّ ﷺ عن أمته أصل كبير في ذلك فإنّ من تبعه فقد واده وهو أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها إليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة أي : وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم عليهما السلام بقوله :﴿ألحقنا بهم ذريتهم﴾ (الطور : ٢١)
فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقال عكرمة إنّ ذلك لقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما يروى أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج فقال نعم ولك أجر "وقال رجل للنبي ﷺ إنّ أمي انسلت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم".
قال الشيخ تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة : أحدها : أنّ الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها : أنّ النبيّ ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار وهذا انتفاع بعمل الغير. ثالثها : أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير. رابعها : أنّ الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها : أنّ الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها : أنّ أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها : قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين ﴿وكان أبوهما صالحاً﴾ (الكهف : ٨٢)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣١
فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما. ثامنها : أنّ الميت ينتفع بالصدقة عنه والعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل الغير. تاسعها : أنّ الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة وهو انتفاع بعلم الغير. عاشرها : أنّ الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها : أن المدين الذي امتنع ﷺ من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبيّ ﷺ وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير. ثاني عشرها : أنّ النبيّ ﷺ قال لمن صلى وحده "ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلى معه" فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها : أنّ الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها : أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. خامس عشرها : أنّ الجار الصالح
١٣٢
ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها : أنّ جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها : الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحيّ عليه وهو عمل غيره. ثامن عشرها : أنّ الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها : أنّ الله تعالى قال لنبيه ﷺ ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ (الأنفال : ٣٣)
وقال تعالى :﴿ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات﴾ (الفتح : ٢٥)
﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض﴾ (البقرة : ٢٥١)


الصفحة التالية
Icon