تنبيه : قوله تعالى :﴿وأنه هو أضحك وأبكى﴾ وما بعده يسميه البيانيون الطباق المتضادّ وهو نوع من البديع، وهو : أن يذكر ضدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه، وأضحك وأبكى لا
١٣٤
مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما سيقا لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فلان بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع، ولا يريد ممنوعاً ومعطى واختار هذين الموضعين المذكورين لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبائعيين يبين لاختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً ولا سبباً، وإذا لم يعلل بأمر فلا بدّ له من موجد وهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون : سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ومما يدل على ذلك أنهم إذا عللوا الضحك قالوا : لقوّة التعجب وهو باطل، لأنّ الإنسان ربما بهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل : لقوّة الفرح وليس كذلك لأنّ الإنسان قد يبكي لقوّة الفرح كما قال بعضهم :
*هجم السرور على حتى أنه ** من عظم ما قد سرني أبكاني*
﴿وأنه هو﴾ أي : لا غيره ﴿أمات وأحيا﴾ وإن رأيتم أسباباً ظاهرة فإنها لا عبرة بها في نفس الأمر بل هو الذي خلقها أي أمات في الدنيا وأحيا في البعث وقال القرطبي : قضى أسباب الموت والحياة وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء وقيل : أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣١
﴿وأنه خلق الزوجين﴾ ثم فسرهما بقوله تعالى :﴿الذكر والأنثى﴾ فإنه لو كان ذلك في يد غيره لمنع البنات لأنها مكروهة لغالب الناس.
وقوله تعالى :﴿من نطفة إذا تمنى﴾ أي : تصب يشمل سائر الحيوانات لا أن ذلك مختص بآدم وحوّاء عليهما السلام، لأنهما ما خلقا من نطفة، وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة لأنّ النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم قال تعالى :﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله﴾ (الزخرف : ٨٧)
وقال تعالى :﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله﴾ (لقمان : ٢٥)
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿وأنه خلق﴾ ولم يقل وأنه هو خلق كما قال تعالى :﴿وأنه هو أضحك وأبكى﴾ أجيب بأن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد فيهما لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم عليه السلام أنا أحيي وأميت فأكد ذلك بالفصل، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بخلق أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿وأنه هو أغنى وأقنى﴾ (النجم : ٤٨)
حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون :﴿إنما أوتيته على علم عندي﴾ (القصص : ٧٨)
ولذلك قال :﴿هو رب الشعرى﴾ (النجم : ٤٩)
فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
﴿وأن عليه﴾ أي : خاصاً به علماً وقدرة ﴿النشأة﴾ أي الحياة ﴿الأخرى﴾ للبعث يوم القيامة بعد الحياة الأولى فإن قيل : الإعادة لا تجب على الله تعالى فما معنى عليه ؟
أجيب : بأنه عليه بحكم الوعد فإنه قال :﴿إنا نحن نحيي الموتى﴾ (يس : ١٢)
فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة والباقون بسكون الشين
١٣٥
وبعدها الهمزة المفتوحة وإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٥
وأنه هو﴾ أي : وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره ﴿أغنى﴾ قال أبو صالح : أغنى الناس بالأموال ﴿وأقنى﴾ أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم وقال الحسن وقتادة : أخدم، وقال ابن عباس : أغنى وأقنى أعطى فأرضى وقال مجاهد ومقاتل : أقنى أرضى بما أعطى وقنع قال الراغب : وتحقيقه أنه جعل له قنية من الرضا وقال سليمان التيمي : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه وقال ابن زيد : أغنى أكثر وأقنى أقل وقرأ ﴿يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ (الرعد : ٢٦)
وقال الأخفش : أقنى أفقر وقال ابن كيسان : أولد وقال الزمخشري : أقنى أعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت على أن لا يخرج من يدك.
تنبيه : حذف مفعولا أغنى وأقنى لأنّ المراد نسبة هذين الفعلين إليه، وكذلك باقيها وألف أقنى منقلبه عن ياء لأنه من القنية قال الشاعر :
* ** ألا إنّ بعد العدم للمرء قنية*
ويقال : قنيت كذا وأقنيته قال الشاعر :
* ** قنيت حياتي عفة وتكرّما*