فإن قيل : إلحاق الضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوّزون كذبت فما الفرق ؟
أجاب الرازي بأنّ التأنيث إنما جاز قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولم تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع لأنّ الجمع للفاعلين بسبب فعلهم ﴿فكذبوا عبدنا﴾ نوحاً عليه السلام على ماله من العظمة بنسبته إلينا مع تشريفنا إياه بالرسالة ﴿وقالوا﴾ زيادة على التكذيب ﴿مجنون﴾ أي : فهذا الذي يصدر منه من الخوارق أمر من الجنّ.
﴿وازدجر﴾ وهل هذا من مقولهم أي قالوا : إنه ازدجر أي ازدجرته الجنّ وذهبت بلبه قاله مجاهد، أو هو من كلام الله تعالى أخبر الله تعالى عنه بأنه انتهر وازدجر بالسب وأنواع الأذى، وقالوا :﴿لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين﴾ (الشعراء : ١١٦)
١٤٣
قال الرازي : وهذا أصح لأنّ المقصود تقوية قلب النبيّ ﷺ بذكر من تقدّمه وأيضاً يترتب عليه قوله تعالى :﴿فدعا ربه﴾ وهذا الترتيب في غاية الحسن، لأنّهم لمّا زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه الذي رباه بالإحسان إليه وبرسالته ﴿أني﴾ أي : بأني ﴿مغلوب﴾ أي : من قومي كلهم بالقوّة والمنعة لا بالحجة وأكده ابلاغاً في الشكاية وإظهار الذل العبودية ؛ لأنّ الله تعالى عالمٌ بسر العبد وجهره فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل وكذا الإبلاغ فيه، وقال ابن عطية : غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم. قال ابن عادل : وهو ضعيف. ﴿فانتصر﴾ أي : أوقع نصرتي عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه فانتقم لي منهم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٣
ففتحنا﴾
أي : بسبب دعائه فتحاً يليق بعظمتنا ﴿أبواب السماء﴾ أي : كلها في جميع الأقطار، وعَبَّرَ بجمع القلة عن جمع الكثرة والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها فإنّ للسماء أبواباً تفتح وتغلق وقيل : هذا على سبيل الاستعارة فإنّ الظاهر أنّ الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفي قوله تعالى :﴿ففتحنا﴾ بيان بأنّ الله تعالى انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف.
وفي الباء في قوله تعالى :﴿بماء﴾ وجهان : أظهرهما : أنّها للتعدية وذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة للفتح به كما تقول فتحت بالمفتاح والثاني أنها للحال أي فتحناها ملتبسة بماء ﴿منهمر﴾ أي : منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب كثرة وعظماً ولذلك لم يقل بمطر لأنّه خارجٌ عن تلك العادة واستمرّ ذلك أربعين يوماً.
﴿وفَجّرْنا﴾ أي : صدّعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأسلنا ﴿الأرض عيونا﴾ أي : جميع عيون الأرض ولكنَّه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثمَّ البيان وإفادة أنّ وجه الأرض صار كله عيوناً وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها.
﴿فالتقى الماء﴾ أي : المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال تعالى :﴿على أمرٍ﴾ أي : حالٍ ﴿قد قدرِ﴾ أي : قضى أي في الأزل وهو هلاكهم غرقاً بماء مقدّر لا يزيد قطرة ولا يهلك غير من أمرناه بإهلاكهم.
﴿وحملناه﴾ أي : نوحاً عليه السلام تتميماً لانتصاره ﴿على ذات﴾ أي : سفينة صاحبةِ ﴿ألواح﴾ أي : أخشاب نجرت حتى صارت عريضة ﴿ودسر﴾ جمع دسار ككتاب وهو ما تشدّ به السفينة من مسمار وحديد أو خشب أو من خيوط الليف ونحوها قال البقاعي : ولعله عبّر عن السفينة بما شرحها تنبيهاً على قدرته على ما يريد.
﴿تجري﴾ أي : السفينة ﴿بأعيننا﴾ أي : محفوظة من أنْ تدخل بحر الظلمات، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات بحفظنا على مالنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء بأعين كثيرة ولا يغيب عنه أصلاً، وجوّزوا أنْ يكون جمع تكسير لعين الماء. وقوله تعالى :﴿جزاء﴾ منصوب بفعل مقدّر أي أغرقوا انتصاراً ﴿لمن كان كفر﴾ وهو نوح عليه الصلاة والسلام أو الباري تعالى :
﴿ولقد تركناها﴾ أي : أبقينا هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة وقيل تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقاياها أول هذه الأمّة ﴿آية﴾ أي : علامة عظيمة على مالنا من العلم المحيط والقدرة التامّة ﴿فهل من مدّكر﴾ أي :
١٤٤
معتبر ومتعظ بها وأصله مذتكر أبدلت التاء دالاً مهملة وكذا المعجمة وأدغمت فيها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٣


الصفحة التالية
Icon