وقوله تعالى :﴿فكيف كان﴾ أي وجد وتحقق ﴿عذابي﴾ أي : لمن كفر وكذب رسلي ﴿ونذر﴾ أي : إنذاري، استفهام تقرير فكيف خبر كان وهي للسؤال عن الحال والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى بالمكذبين لنوح موقعه وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الراء وصلا لا وقفاً جميع ما في هذه السورة، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
قال البقاعي : ولما كان هذا المفصل مما أنزل أول القرآن تيسيراً على الأمّة نبه على ذلك بقوله تعالى :﴿ولقد يسرنا﴾ أي : على مالنا من العظمة ﴿القرآن﴾ أي : على ماله من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه وصفاً لنا ﴿للذكر﴾ أي : الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والتشريف والحفظ لمن يراعيه. قال ابن برجان : أنزلناه باللسان العربي ونزلناه للإفهام تنزيلاً، وضربنا لهم الأمثال، وأطلنا لهم في هذه الأعمار ليتذكروا الميثاقَ المأخوذَ عليهم، وقال القشيري : يسرّ قراءته على ألسنة قوم وعلمه على قلوب قوم وفهمه على قلوب قوم وحفظه على قلوب قوم وكلهم أهل القرآن وخاصته وليس يُحفظ من كتب الله تعالى عن ظهر قلب غيره. قاله المحلى. ﴿فهل من مدكر﴾ أي : معتبر ومتعظ بها وتقدم أصله.
ولما انقضت قصة نوح عليه السلام على هذا الهول العظيم ذكر قصة عاد لأنها أعظم قصة جرت بعد قوم نوح فيما تعرفه العرب بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٣
﴿كذبت عاد﴾ أي : أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولهم هود عليه الصلاة والسلام في دعائه لهم إليّ وإنذاره عذابي ﴿فكيف﴾ أي : فعلى أي الأحوال لأجل تكذيبهم ﴿كان عذابي﴾ لهم ﴿ونذر﴾ أي : وإنذاري إياهم بلسان رسولي قبل نزوله، أي وقع موقعه.
فإن قيل : لِمَ لم يقل : فكذبوا هودا كما قال تعالى في قصة نوح :﴿فكذبوا عبدنا﴾ أجيب : بأنّ تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم وإمّا لأن قصة عاد ذكرت مختصرة.
ثم بين عذابهم بقوله تعالى :﴿إنا أرسلنا﴾ أي : بمالنا من العظمة. ﴿عليهم ريحاً﴾ وعبر بحرف الاستعلاء إعلاماً بالنقمة، ثم وصف الريح بقوله تعالى :﴿صرصراً﴾ أي : شديدة الصوت من صرصر الباب أو القلم إذا صوت، وقيل : الشديدة البرد من الصر، وهو البرد، وقال مكي : أصله صرّر من صرَّ الشيء إذا صوت لكن أبدلوا من الراء المشدّة صاداً وهذا قول الكوفيين وقال الرازي : الصرصر : الدائمة الهبوب، من أصر على الشيء إذا دام وثبت.
وأكد شؤمها بذم زمانها فقال تعالى :﴿في يوم نحس﴾ أي : شديد القباحة قيل : كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر وهو شوال لثمان بقين منه، واستمر إلى غروب شمس الأربعاء آخره، فإنه
١٤٥
قال تعالى في سورة الحاقة :﴿سبع ليال وثمانية أيام حسوماً﴾ وقال تعالى في حم السجدة :﴿في أيام نحسات﴾ (فصلت : ١٦)
فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان، وقوله تعالى :﴿مستمر﴾ أي : دائم الشؤم إلى وقت نفاذ المراد منه يفيد ما تفيده الأيام، لأنّ الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عنه الأيام، والحكاية مذكورة هنا على سبيل الاختصار، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز فاستمر عليهم بنحوسه ولم يبق منهم أحد إلا أهلكه، هذا وصفها في ذاتها.
وأمّا وصفها بفعلها فيهم فذكره بقوله تعالى :﴿تنزع﴾ أي : تأخذ ﴿الناس﴾ أي : الذين هم صور لاثبات لهم بأرواح التقوى من الأرض : بعضهم من وجهها، وبعضهم من حُفَرٍ حفروها ليمتنعوا بها من العذاب فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور فتقلع رؤوسهم من جثثهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٥
وقوله تعالى :﴿كأنهم﴾ أي : حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم ﴿أعجاز نخل﴾ أي : أصول نخل قطعت رؤوسها حال من الناس مقدرة. وقوله :﴿منقعر﴾ صفة لنخل باعتبار الجنس وأنث في الحاقة فقال :﴿نخل خاوية﴾ (الحاقة : ٧)
باعتبار معنى الجماعة. قال ابن عادل : وإنما ذكَّر هنا وأنث هناك مراعاة للفواصل في الموضعين. وقال الرازي : ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة فقال تعالى :﴿والنخل باسقات﴾ (ق : ١٠)
وذلك حال عنها وهي كالوصف، وقال تعالى :﴿نخل خاوية﴾ (الحاقة : ٧)
و﴿نخل منقعر﴾ فحيث قال : منقعر كان المختار ذلك لأنّ المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه ورد عليه القعر فهو مقعور، والخاوي والباسق فاعل، وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى : تقول : امرأة قتيل، وأمّا الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأنّ البسوق أمر قائم بها، وأمّا الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأنّ الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.
تنبيه : الأعجاز جمع عجْز وهو مؤخر الشيء، ومنه العجْز لأنه يؤدي إلى تأخير الأمور، والمنقعر المنقلع من أصله : يقال : قعرت النخلة : قلعتها من أصلها فانقعرت، وقعرت البئر وصلت إلى قعرها، وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى وصلت إلى قعره.


الصفحة التالية
Icon