وأما الثاني وهو أن يقال : أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً، فهذا صحيح، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره، فعنذ هذا يتعين /التأويل، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلاً ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهباً أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب، والله ولي الهداية والرشاد.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٧
المسألة الثالثة : في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول : ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام ﴿قُلْ تَعَالَوْا ﴾ (الأنعام : ١٥١) إلى آخر الآيات الثلاث، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه، وأقول : التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع، وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم.
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة.
القول الثاني : وهو أيضاً مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.
والقول الثالث : قال الأصم : المحكم هو الذي يكون دليله واضحاً لائحاً، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ (المؤمنون : ١٤) وقوله ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ ﴾ (الأنبياء : ٣٠) وقوله ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٢) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا تراباً ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكماً لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانياً.
واعلم أن كلام الأصم غير ملخص، فإنه إن عني بقوله : المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة، والمتشابه ما لا يكون كذلك، وهو إما المجمل المتساوي، أو المؤول المرجوح، فهذا هو الذي ذكرناه أولاً، وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهاً، لأن قوله ﴿خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية، وإن أهل الطبيعة يقولون : السبب في ذلك الطبائع والفصول، أو تأثيرات الكواكب، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل، ولعلّ الأصم يقول : هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهراً بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادراً، ومنها ما يكون الدليل فيه خفياً كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول : هو المحكم والثاني : هو المتشابه.


الصفحة التالية
Icon