جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٧
القول الرابع : أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي، أو بدليل خفي، فذاك هو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين، ونظيره قوله تعالى :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا ﴾ (الأعراف : ١٨٧) (النازعات : ٤٢).
المسألة الرابعة : في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً.
اعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال : إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر، كقوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ (الأنعام : ١٠٣) والقدري يقول : بل هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ﴾ (الأنعام : ٢٥) وفي موضع آخر ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفُا ﴾ (الإسراء : ٤٦) وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله ﴿وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة : ٢٢، ٢٣) والنافي يتمسك بقوله ﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ﴾ (الأنعام : ١٠٣) ومثبت الجهة يتمسك بقوله ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ (النحل : ٥٠) وبقوله ﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه : ٥) والنافي يتمسك بقوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ (الشورى : ١١) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه : محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه : متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا، أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض.
واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهاً :
الوجه الأول : أنه متى كانت المتشابهات موجودة، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، قال الله تعالى :﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ﴾ (آل عمران : ١٤٢).
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٧
الوجه الثاني : لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه، ويؤثر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق.
الوجه الثالث : أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد.
الوجه الرابع : لما كان القرآن مشتملاً على المحكم والمتشابه، افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.
الوجه الخامس : وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه/ ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده.
وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ فالمراد به هو القرآن ﴿مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ﴾ وهي التي يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية، أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها.


الصفحة التالية
Icon