ثم قال :﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ﴾ وفيه سؤالان :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٧
السؤال الأول : ما معنى كون المحكم أماً للمتشابه ؟
الجواب : الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل : أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب، وهو أنه قال : إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها، فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن، ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة، فكان قوله ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ (مريم : ٣٥) محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية، وكان قوله : عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم.
السؤال الثاني : لم قال :﴿أُمُّ الْكِتَـابِ﴾ ولم يقل : أمهات الكتاب ؟
الجواب : أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر، ونظيره قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ا ءَايَةً﴾ (المؤمنون : ٥٠) ولم يقل آيتين، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة، فكذلك ههنا.
ثم قال :﴿وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ ﴾ وقد عرفت حقيقة المتشابهات، قال الخليل وسيبويه : أن ﴿ءَاخَرَ ﴾ فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك لأن أُخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأُخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع ﴿مِنْ﴾ أو بالألف واللام، فيقال : زيد أفضل من عمرو، وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل، فكان القياس أن يقال : زيد آخر من عمرو، أو يقال : زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ ﴿مِنْ﴾ لأن لفظه اقتضى معنى ﴿مِنْ﴾ فاسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن، فسقط الألف واللام أيضاً فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أُخر فأخر جمعه، فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها.
ثم قال :﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه، بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه، والزيغ الميل عن الحق، يقال : زاغ زيغاً : أي مال ميلاً واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله ﴿فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ فقال الربيع : هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه قال : بلى. فقالوا : حسبنا. فأنزل الله هذه الآية، ثم أنزل ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾ (آل عمران : ٥٩) وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج : هم الكفار الذين ينكرون البعث، لأنه قال في آخر الآية ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه ا إِلا اللَّه ﴾ وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٧


الصفحة التالية
Icon