الطريق الأول : أن هذا إعراض عن المحاجة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً، فإن هذه السورة مدنيّة، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها، وأيضاً قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه، فأولها : أنه تعالى ذكر الحجة بقوله ﴿الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾ على فساد قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ﴾ (آل عمران : ٣) على صحة النبوّة، وذكر شبه القوم، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم، ثم ذكر لهم معجزة أخرى، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى :﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ﴾ (آل عمران : ١٣) ثم بيّن صحة القول بالتوحيد، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ﴾ (آل عمران : ١٨) ثم بيّن تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق، واختلافهم في الدين، إنما كان لأجل البغي والحسد، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل، فبعد هذا قال :﴿فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل، وإيضاح البينات، فإن تركتم الأنف والحسد، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام، فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج، وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق، مستسلمون له، /مقبلون على عبودية الله تعالى، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٣
الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ﴾ محاجة، وإظهار للدليل، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طا عة الله تعالى وعبوديته، وهذا القدر متفق عليه، ونظيره هذه الآية قوله تعالى :﴿بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِه شَيْـاًا﴾ (آل عمران : ٦٤).
والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، والإقرار بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام، فأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يتبع ملته فقال :﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ (النحل : ١٢٣) ثم إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلّم حيث قال :﴿إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ (الأنعام : ٧٩) فقول محمد صلى الله عليه وسلّم :﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ﴾ كقول إبراهيم عليه السلام ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِىَ﴾ أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى، وقصدته بالعبادة وأخلصت له، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة، بعيدة عن كل شبهة وتهمة، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات، وداخلاً تحت قوله ﴿وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ (النحل : ١٢٥).


الصفحة التالية
Icon