جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٣
المسألة الثانية : هذا محمول على الاستعارة، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم، والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى :﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ (البقرة : ٢٥).
النوع الثاني من الوعيد : قوله ﴿ أولئك الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ﴾.
اعلم أنه تعالى بيّن بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب.
النوع الثالث من وعيدهم : قوله تعالى :﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ﴾.
اعلم أنه تعالى بيّن بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه /لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٣
١٧٨
اعلم أنه تعالى لما نبّه على عناد القوم بقوله ﴿فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ﴾ (آل عمران : ٢٠) بيّن في هذه الآية غاية عنادهم، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون، ويتولون، وذلك يدل على غاية عنادهم، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر قوله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ﴾ يتناول كلهم، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم، إلا أنه قد دلّ دليل آخر، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول ﴿مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ (آل عمران : ١١٣).
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿أوتوا نصيباً من الكتاب المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق، ومن عند الله.
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها : روي عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه وسلّم بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم ؟
قالوا : عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة، فلما أتى /على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام : قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٨
والرواية الثانية : أنه صلى الله عليه وسلّم دخل مدرسة اليهود، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا : على أي دين أنت ؟
فقال : على ملة إبراهيم، فقالوا : إن إبراهيم كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلّم : هلموا إلى التوراة، فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة : أن علامات بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم مذكورة في التوراة، والدلائل الدالة على صحة نبوّته موجودة فيها، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلّم إلى التوراة، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى :{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاـاةِ فَاتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾
(آل عمران : ٩٣) وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك.
والرواية الرابعة : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى، وذلك لأن دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم كانت موجودة في التوراة والإنجيل/ وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون.
أما قوله ﴿نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ﴾ فالمراد منه نصيباً من علم الكتاب، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب، لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه.
أما قوله تعالى :﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَـابِ اللَّهِ﴾ ففيه قولان :
القول الأول : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن.
فإن قيل : كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به ؟


الصفحة التالية
Icon