قلنا : إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله.
والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين : إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول : أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني : أنه تعالى عجب رسوله صلى الله عليه وسلّم من تمردهم وإعراضهم، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته، ويقرون بحقيته الثالث : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية، وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا /ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٨
وأما قوله ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ فالمعنى : ليحكم الكتاب بينهم، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور، وقرىء ﴿لِيَحْكُمَ﴾ على البناء للمفعول، قال صاحب "الكشاف" : وقوله ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء.
ثم قال :﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ وفيه وجهان :
الأول : المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم، كأنه قيل : ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلّم لأجل تولي علمائهم.
والثاني : أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب، كأنه قيل : لا تظن أنه تولى عن هذه المسأُلة بل هو معرض عن الكل.
وأما قوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾ (آل عمران : ٢٤) فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة، ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ قال في هذه الآية : ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، قال الجبائي : وفيها دلالة على بطلان قول من يقول : إن أهل النار يخرجون من النار، قال : لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً، ولما استحق الذم، فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل.
وأقول : كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام، وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم.
سلمنا أنه يلزم ذلك، لكن لم قلتم : إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أُخر الأول : لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة/ فإنه روي أنهم كانوا يقولون : مدة عذابنا سبعة أيام، ومنهم من قال : بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني : أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ، لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم، لأنه كافر، والكافر عذابه دائم والثالث : أنهم لما قالوا ﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾ فقد استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ /العقاب فكان ذلك تصريحاً بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٨
أما قوله تعالى :﴿وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله ﴿مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ فقيل : هو قولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَـا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـا ؤُه ﴾ (المائدة : ١٨) وقيل : هو قولهم ﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾ وقيل : غرهم قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل.


الصفحة التالية
Icon