١٨٥
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة، وصحة دين الإسلام، ثم قال لرسوله ﴿فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ﴾ (آل عمران : ٢٣) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله ﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾ (آل عمران : ٢٤) ثم ذكر وعيدهم بقوله ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ (آل عمران : ٢٥) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلماً نبيّه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ وفي الآية مسائل :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
المسألة الأولى : اختلف النحويون في قوله ﴿اللَّهُمَّ﴾ فقال الخليل وسيبويه ﴿اللَّهُمَّ﴾ معناه : يا الله، والميم المشددة عوض من : يا، وقال الفرّاء : كان أصلها، يا الله أم بخير : فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء، وحذفوا الهمزة من : أم، فصار ﴿اللَّهُمَّ﴾ ونظيره قول العرب : هلم، والأصل : هل، فضم : أم إليها، حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه الأول : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال : اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف، لأن التقدير :/يا الله أمنا واغفر لنا، ولم نجد أحداً يذكر هذا الحرف العاطف والثاني : وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال، لجاز أن يتكلم به على أصله، فيقال ﴿اللَّهِ إِمَّا﴾ كما يقال ثم يتكلم به على الأصل فيقال ﴿كُلُّ أُمَّةٍ﴾ الثالث : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفاً، فكان يجوز أن يقال : يا اللّهم، فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال : يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن هذه الوجوه، فقال : أما الأول فضعيف، لأن قوله ﴿لامْرِ اللَّهِ إِمَّا﴾ معناه : يا الله اقصد، فلو قال : واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما : قوله ﴿مِنْ﴾ والثاني : قوله ﴿وَاغْفِرْ لَنَآ ﴾ أما إذا حذفنا العطف صار قوله : اغفر لنا تفسيراً لقوله : أمنا. فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد، ونظائره كثيرة في القرآن، وأما الثاني فضعيف أيضاً، لأن أصله عندنا أن يقال : يا الله أمنا. ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك، وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله : ما أكرمه، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا، وأما الثالث : فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقالّ : يا اللّهم وأنشد الفرّاء :
وأما عليك أن تقولي كلما
سبحت أو صليت يا اللّهما
وقول البصريين : إن هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن، وأما قوله : كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا﴾ (يوسف : ٤٦) فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف، ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه الأول : أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى، وهذا غير جائز ألبتة، فإنه لا يقال ألبتة (الله يا) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني : لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء، حتى يقال : زيدم وبكرم، كما يجوز أن يقال : يا زيد ويا بكر والثالث : لو كان الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع : لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
المسأل الثانية :﴿مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ في نصبه وجهان الأول : وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء، وكذلك قوله ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الزمر : ٤٦) ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله ﴿اللَّهُمَّ﴾ لأن قولنا ﴿اللَّهُمَّ﴾ مجموع الاسم والحرف، وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني : وهو /قول المبرد والزجاج أن ﴿مُلْكُ﴾ وصف للمنادى المفرد، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه ولا يمتنع الصفة مع الميم، كما لا يمتنع مع الياء.


الصفحة التالية
Icon