واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهياً عن موالاة الكافر، ومتى كان منهياً عن ذلك، كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك.
المسألة الثالثة : قوله ﴿مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي من غير المؤمنين كقوله ﴿وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ (البقرة : ٢٣) أي من غير الله، وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان، تقول : زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه، ثم إن من كان مبايناً لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملاً في معنى غير، ثم قال تعالى :﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ﴾ وفيه حذف، والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأساً، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي، وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك ليس النوك عنك بعازب
ويحتمل أن يكون المعنى : فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ.
ثم قال تعالى :﴿إِلا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَـاـاةً ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الكسائي : تقاة بالإمالة، وقرأ نافع وحمزة : بين التفخيم والإمالة، والباقون بالتفخيم، وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء، وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة، ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف.
المسألة الثانية : قال الواحدي : تقيته تقاة، وتقى، وتقية، وتقوى، فإذا قلت اتقيت كان مصدره الاتقياء، وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر، كما يقال : جلس جلسة، وركب ركبة، وقال الله تعالى :﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ (آل عمران : ٣٧) وقال الشاعر :
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فأجراه مجرى الإعطاء، قال : ويجوز أن يجعل تقاة ههنا مثل رماة فيكون حالاً مؤكدة.
المسألة الثالثة : قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟
قال : نعم نعم نعم، فقال : أفتشهد أني رسول الله ؟
قال : نعم، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة، ومحمد رسول قريش، فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله ؟
قال : نعم، قال : أفتشهد أني رسول الله ؟
فقال : إني أصم ثلاثا، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى :﴿إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ﴾ (النحل : ١٠٦).
المسألة الرابعة : اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها.
الحكم الأول : أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
الحكم الثاني للتقية : هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل، ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
الحكم الثالث للتقية : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين، فذلك غير جائز ألبتة.
الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.
الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز، لقوله صلى الله عليه وسلّم :"حرمة مال المسلم كحرمة دمه" ولقوله صلى الله عليه وسلّم :"من قتل دون ماله فهو شهيد" ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم.
الحكم السادس : قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا، وروى عوف عن الحسن : أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.


الصفحة التالية
Icon