ثم قال تعالى :﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه ﴾ وفيه قولان الأول : أن فيه محذوفاً، والتقدير : ويحذركم الله عقاب نفسه، وقال أبو مسلم المعنى ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه ﴾ أن تعصوه فتستحقوا عقابه /والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال : ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره، فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه، ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادراً على ما لا نهاية له، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد.
والقول الثاني : أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار، أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل.
ثم قال :﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ والمعنى : إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
اعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن، فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : هذه الآية جملة شرطية فقوله ﴿إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ شرط وقوله ﴿يَعْلَمْهُ اللَّه ﴾ جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى.
والجواب : أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام.
السؤال الثاني : محل البواعث والضمائر هو القلب، فلم قال :﴿إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ﴾ ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم ؟
الجواب : لأن القلب في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال :﴿يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ﴾ (الناس : ٥) وقال :﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ﴾ (الحج : ٤٦).
السؤال الثالث : إن كانت هذه الآية وعيداً على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق.
الجواب : ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله ﴿لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه ﴾ (البقرة : ٢٨٤).
ثم قال تعالى :﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾.
واعلم أنه رفع على الاستئناف، وهو كقوله ﴿قَـاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ (التوبة : ١٤) جزم الأفاعيل، ثم قال :﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ﴾ فرفع، ومثله قوله ﴿فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَا وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ﴾ (الشورى : ٢٤) رفعاً، وفي قوله ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾ غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إتماماً للتحذير، وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالماً بما في قلبه، وكان عالماً بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب، ثم بيّن أنه قادر على جميع المقدورات، فكان لا محالة قادراً على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
١٩٥
اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب، ومن تمام الكلام الذي تقدم.
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في العامل في قوله ﴿يَوْمٍ﴾ وجوهاً الأول : قال ابن الأنباري : اليوم متعلق بالمصير والتقدير : وإلى الله المصير يوم تجد الثاني : العامل فيه قوله ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه ﴾ في الآية السابقة، كأنه قال : ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم الثالث : العامل فيه قوله /﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وخص هذا اليوم بالذكر، وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلاً له لعظم شأنه كقوله ﴿مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (الفاتحة : ٤) الرابع : أن العامل فيه قوله ﴿تَوَدُّ﴾ والمعنى : تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس : يجوز أن يكون منتصباً بمضمر، والتقدير : واذكر يوم تجد كل نفس.


الصفحة التالية
Icon