جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال :﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ا ءَادَمَ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المخلوقات على قسمين : المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة : الملائكة، والإنس والجن، والشياطين، أما الملائكة، فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول : أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني : لهذا السبب قدروا على حمل العرش، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث : لهذا السبب سموا روحانيين، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور، ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول : أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السموات، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى :﴿وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ﴾ (البقرة : ٣٤) وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى :﴿وَإِنَّ الشَّيَـاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِهِمْ لِيُجَـادِلُوكُم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام : ١٢١) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى :﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه ا أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّا ﴾ (الكهف : ٥٠) وقال :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ﴾ (الأنعام : ١١٢) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ﴾ (الأعراف : ١٢) وقال :﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ (الحجر : ٢٧) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى :﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَا فَمَنْ أَسْلَمَ فَ أولئك تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ (الجن : ١٤) أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم صلى الله عليه وسلّم على ما قال تعالى في هذه السورة ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران : ٥٩) وقال :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (النساء : ١).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
إذا عرفت هذا فنقول : اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى :﴿اسْجُدُوا لادَمَ فَسَجَدُوا ﴾ (الأعراف : ١١) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة، فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين.
فإن قيل : إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال/ ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض، فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل ﴿وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ (البقرة : ٤٧) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلّم بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، والجواب ظاهر في قوله : اصطفى آدم على العالمين، يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه، فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل.
المسألة الثانية :﴿اصْطَفَى ﴾ في اللغة اختار، فمعنى : اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه : صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى ﴿إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَـالَـاتِي﴾ (الأعراف : ١٤٤) وقال في إبراهيم ﴿وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ * إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ﴾ (ص : ٤٧).


الصفحة التالية
Icon