المسألة الثانية : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ بالتشديد، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا، فمن قرأ (زكرياء) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه/ وهو الاختيار، لأن هذا مناسب لقوله تعالى :﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ وعليه الأكثر، وعن ابن كثير في رواية بكسر الفاء، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان، كالهيجاء والهيجا، وقرأ مجاهد ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا﴾ على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة، ونصب ﴿رَبُّهَا﴾ كأنها كانت تدعو الله فقالت : اقبلها يا ربها، وأنبتها يا ربها، واجعل زكريا كافلاً لها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
المسألة الثالثة : اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفوليتها، وبه جاءت الروايات، وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن فطمت، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال :﴿وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ ثم قال :﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني : أنه تعالى قال :﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَـامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه ﴾ وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معاً.
وأما الحجة الثانية : فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة.
ثم قال الله :﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿الْمِحْرَابَ﴾ الموضع العالي الشريف، قال عمر بن أبي ربيعة :
ربة محراب إذا جئتها
لم أدن حتى أرتقي سلما
واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى :﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ (ص : ٢١) والتسور لا يكون إلا من علو، وقيل : المحراب أشرف المجالس وأرفعها، يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم : أنى لك هذا ؟
قالت هو من عند الله، فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقاً للعادة، أو لا يكون، فإن قلنا : إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول : أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلاً على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه ا قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ والقرآن دل على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه ﴾ أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقاً للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث : أن التنكر في قوله ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ﴾ يدل على تعظيم حال ذلك الرزق، كأنه قيل : رزقاً. أي رزق غريب عجيب، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقاً للعادة الرابع : هو أنه تعالى قال :﴿وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ (الأنبياء : ٩١) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق، وإلا لم يصح ذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولداً من غير ذكر ؟


الصفحة التالية
Icon