المسألة الثانية : في قوله ﴿وَسَبِّحْ﴾ قولان أحدهما : المراد منه : وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحاً قال الله تعالى :﴿فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح، وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين الأول : أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ﴾ فرق، وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني : وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى :﴿وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ﴾ وثانيهما : أن قوله ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ﴾ محمول على الذكر باللسان.
القصة الثالثة
وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٠
٢١٧
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : عامل الإعراب ههنا في ﴿إِذْ﴾ هو ما ذكرناه في قوله ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ (آل عمران : ٣٥) من قوله ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ثم عطف عليه ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ وقيل : تقديره واذكر إذ قالت الملائكة.
المسألة الثانية : قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده، وهذا كقوله ﴿يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه ﴾ (النحل : ٢) يعني جبريل، وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه، لأن /سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام، وهو قوله ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ (مريم : ١٧).
المسألةالثالثة : اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ا ﴾ (يوسف : ١٠٩) وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء، أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام، وذلك جائز عندنا، وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكرياء عليه السلام، وهو قول جمهور المعتزلة، ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّ مُوسَى ﴾ (القصص : ٧).
المسألة الرابعة : اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً : هو الاصطفاء، وثانياً : التطهير، وثالثاً : الاصطفاء على نساء العالمين، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٧
النوع الأول من الاصطفاء : فهو أمور أحدها : أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها : قال الحسن : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها : أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها : أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى :﴿أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه ﴾ وخامسها : أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول، وأما التطهير ففيه وجوه أحدها : أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب : ٣٣) وثانيها : أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها : طهرها عن الحيض، قالوا : كانت مريم لا تحيض ورابعها : وطهرك من الأفعال الذميمة، والعادات القبيحة وخامسها : وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني : فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة.
المسألة الخامسة : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :"حسبك من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة عليهن السلام" فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل، وقول من /قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها، فهذا ترك الظاهر.
ثم قال تعالى :﴿الْعَـالَمِينَ * يَـامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى﴾ وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى :﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ﴾ (البقرة : ٢٣٨) وبالجملة فلما بيّن تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات، شكراً لتلك النعم السنية، وفي الآية سؤالات :


الصفحة التالية
Icon