أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة، وقالوا : إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة، وكان الحاضرون جمعاً قليلين، فالسامعون لذلك الكلام، كان جمعاً قليلاً، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء، وبتقدير : أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت، فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً مخفياً إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بذلك، وأيضاً فليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب : لما قرأ على النجاشي /سورة مريم، قال النجاشي : لا تفاوت بين واقعة عيسى، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة.
ثم قال تعالى :﴿وَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾.
فإن قيل : كون عيسى كلمة من الله تعالى، وكونه ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ﴾ وكونه من المقربين عند الله تعالى، وكونه مكلماً للناس في المهد، وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحاً فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله ﴿وَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ ؟
قلنا : إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح، والطريق الأكمل، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب، وفي أفعال الجوارح، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٠
٢٢٦
قال المفسرون : إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام، وقوله ﴿إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (غافر : ٦٨) تقدم تفسيره في سورة البقرة.
أما قوله تعالى :﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع، وعاصم ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ بالياء والباقون بالنون، أما الياء فعطف على قوله ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ وقال المبرد عطف على يبشرك بكلمة، وكذا وكذا ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَـابَ﴾ ومن قرأ بالنون قال تقدير الآية أنها : قالت رب أنى يكون لي ولد فقال لها الله ﴿كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ فهذا وإن كان إخباراً على وجه المغايبة، فقال لأن معنى قوله ﴿قَالَ كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ معناه : كذلك نحن نخلق ما نشاء ﴿إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والله أعلم.
المسألة الثانية : في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف، والأقرب عندي أن يقال : المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار عالماً بالخط والكتابة، ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية، يعلمه التوراة، وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهي، وفيه أسرار عظيمة، والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلهية، ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل، وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتاباً آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى، والمرتبة العليا في العلم، والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية، فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجوه الأول : تقدير الآية : ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل، قائلاً ﴿أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه الثاني : قال الزجاج : الاختيار عندي أن تقديره : ويكلم الناس رسولاً، وإنما أضمرنا ذلك لقوله ﴿أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم﴾ والمعنى : ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم، الثالث : قال الأخفش : إن شئت جعلت الواو زائدة، والتقدير : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة، والإنجيل رسولاً إلى بني إسرائيل، قائلاً : أني قد جئتكم بآية.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين منهم.


الصفحة التالية
Icon